استراحة البيان ، قصر المطر ، يكتبها اليوم جمال الغيطاني

ت + ت - الحجم الطبيعي

لن أتوقف عند أسباب الضجة المثارة حاليا حول هذه الرواية الجميلة, الجديدة, ما يعينني العمل الأدبي في شكله وجوهره, وعندما تصل الرواية الى قارىء لايعرف الخلفيات التي ترتبط بالضجة المثارة الآن في سوريا, سواء من شيوخ الدروز الذين اعتبروا الرواية مسيئة لطائفتهم, هاتكة لأسرار لم يكن واجبا اشاعتها وتصويرا لحياتهم اعتبروه ظالما, أو من المدافعين عن الرواية والقائلين بأنها لا تسيىء الى الدروز, وإن كنت قطعا مع الرأي المدافع عن حرية الكاتب في التعبير والكتابة, وهذا مبدأ مطلق, لا مساومة فيه, ويكفي أن حياة كل أديب عربي معاصر تنقضي محاصرة بقوائم المحظورات الطائلة. ممدوح عزام أديب سوري, يعيش في محافظة السويداء, حيث تجري أحداث الرواية, صدر له من قبل مجموعة قصصية عام خمسة وثمانين وتسعمئة وألف. بعنوان (نحو الماء) , ومجموعة أخرى بعنوان (مهراج الماء) عام تسعة وثمانين. أما (قصر المطر) فعمله الروائي الطويل الأول, يقع في ستمئة وأربعة وأربعين صفحة من القطع الكبير. تجري الأحداث في القرن الماضي, النصف الأول منه, زمن الاحتلال الفرنسي, و(قصر المطر) اسم رمزي لمكان كان يتمركز فيه الفرنسيون. ونستطيع أن نرى بعض الشخصيات التاريخية التي لعبت دورا وطنيا هاما في مقاومة الاحتلال وان لم يذكرهم بأسمائهم. في الواقع نعرف الدور الهام الذي قامت به أسرة الأطرش. والقائد السوري البارز سلطان الأطرش. لكننا لا نجده باسمه في الرواية, وإن كنت على يقين أن المؤلف حاول رسم شخصيته من خلال (بهاء الدين) الذي صوره كبطل ملحمي. تبدأ الرواية بمفتتح غير تقليدي العنوان (بعد الكلام) ثم نقرأ تلك السطور: (أيقظته الطلقات) سبع رصاصات اخترقت الواجهة الغربية, واجتازت الممرات الكامدة, والتجاويف المشظاة, والهامات المشرئبة, والهواء المصفر في القيظ, ثم استقرت في جسد ما (إنه جسدي) . هكذا نقرأ أحاسيس انسان اخترقت جسده الرصاصات, مع وعيه التام بموته, وما يجري حوله, بما في ذلك اقتراب بعض الرجال المسلحين وعدم انتباههم له, وحومان الضبع آكل الموتى. (عند الظهر مَرَّ به بدويان, فاجأتهما القامة الهائلة للجثة المستلقية, تفحصا وجهه, لم يتعرفا عليه, وحاولا أن يحزرا من هو, ثم أقلعا عن ذلك, وقال أحدهما, خلينا نروح) . شيئا فشيئا ندرك غرابة الموقف, ثم نكتشف أن المقتول يعي ما يجري له, ما يحدث حوله وما يحدث له, انه ينتقل بروحه ليتقمص شخصا آخر, القارىء الذي ليس لديه فكرة أو خلفية عن عقيدة التقمص سوف يتقبل الوصف والحدث كأمر عجائبي, خاصة أن المؤلف لايذكر اسم القتيل, ولكنه يميز الفصل الخاص به بحروف مائلة, وسوف تقابلنا الحروف المائلة في مواضع عديدة من النص, ولكن أهم الأجزاء ما يرد في نهاية الرواية, عندما يعود هذا القتيل حيا متقمصا شخصا مختلفا لينتقم من القتلة, القتيل ينتمي الى آل الفضل, وسوف تقابلنا منهم شخصيات عديدة, رجال فرسان, محاربون أشداء, ونساء جميلات لهن عواطف جامحة, في المقابل نرى كينج الحمدان عميل الفرنسيين, وأخبرني أصدقائي من سوريا أنه يشير الى شخصية حقيقية, لكن هذا لايعنيني طالما انني أقرأ الرواية كعمل أدبي. الصراع بين آل الفضل وكنج الحمدان, وبين آل الفضل ورجال بهاء الدين من ناحية والفرنسيين من ناحية أخرى, ثمة علاقة سرية بين صباح, احدى بنات أسرة الفضل, وبين كنج الحمدان, انه أبو عذريتها كما يقول العرب عن الرجل الذي يفض بكارة البنت. يقدم المؤلف شخصيتين نسائيتين مؤثرتين, لكل منهما ملامحها الخاصة, تبدوان كنقيضين, لكنهما تتممان بعضهما, الأولى هي ثنية الشقيقة الكبرى والثانية هي صباح الشقيقة الصغرى الجميلة الجموح. ليست صباح وشقيقتها فقط سنلتقي بالعديد من الشخصيات ذات الخصوصية والتي تفيض بالحيوية, تجسد الرواية عالماً متكاملاً يضيف جديداً إلى واقع الرواية العربية, من خلال هذه المنطقة النائية في سوريا, ومن خلال تلك الحقبة التاريخية المحددة سوف نرى حيوات بأكملها. لوحة عريضة زاخرة بألوان الحياة وتدرجاتها, من حب وكره, ورغبات محمومة, شيوخ يعكفون على نسخ مخطوطات حافلة بالأسرار, ينمقون خطوطها باللونين الأحمر والأسود. يظهر المغاربة القادمون من بعيد يحملون المخطوطات الحافلة بالأسرار أيضاً, ينمو العشق بين المتحاربين, المتباغضين, صباح تعشق كنج الحمدان الذي يأمر بجلد أخيها حتى الموت لشكه في أنه سرق بندقية. مشهد الجلد عنيف, واقعي, قوي, يذكرنا بمشهد المؤرخة في رواية جسر على نهر الدنيا, للكاتب اليوغسلافي ايفو اندريتش. صباح تعشق شامل القوى, الفتى تلين عظامه, وتنسحق تحت وطأة مشهد صباح وهي تستحثه وتستميله وتطلب أن يحتويها وتبعث إليه تباشير نداء واستغاثة وقناديل, يلهث وراءها حتى يتزوجها, وعندئذ تنأى عنه, لا تمنحه نفسها, من العلاقات المثيرة الأخرى تلك الصلة بين شامل الفضل وزوجة القائد الفرنسي, فهي تبعث إليه لاستدعائه إليها, تغلق الباب وهو لا يصدق, تتجرد من ملابسها أمامه بلا خجل, تسأله بعذوبة (أنت بردان) , تحيط خصره بذراعيها, يحملها مثل عصفورة, يحس أنها صارت بلا وزن, يقول كلمة حب, ثم ينسى اللغة, يهمس بالعربية, بالفرنسية. يبدو وصف الحب, المشاعر المرتبطة به, أو ممارسته شاعريا, رقيقا, ذروة من ذرى التعبير عن جمال الحياة, تعكس فهما دقيقا للجمال الإنساني, وقدرة على وصفه, حتى ممارسة الحب بين الحيوانات تبدو شاعرية من خلال رؤية المؤلف, من أجمل المشاهد التي قرأتها مشهد تزاوج الحصان بالفرس, يكاد القارىء يسمع الحركة العنيفة, والكبرياء الأشم, والصهيل المليء بالكبرياء. في الرواية حياة وموت, ولقاءات وخرافات, بشر يبلغون حافة الجنون, وآخرون يتقاتلون حتى الموت, إنها لوحة لحياة خصبة, ثرية انطلقت من واقع محدد, ولحظة زمنية معينة لتعبر عن الإنسان في أزمنة شتى, من هنا أقول ان الضجة المثارة حولها الآن تظلم العمل الأدبي الجميل, الجريء, وهنا تكون التحية واجبة لوزارة الثقافة السورية التي قدمته إلى القراء, للأسف لا يمكن تلخيص هذه الرواية الملحمية, رواية المصائر, ولكنني ألفت النظر فقط إليها كعمل أدبي يشكل إضافة إلى الرواية العربية.

Email