جمال مطر في مسرحية عنتر وعبلة ، خيال اخراجي خصب في وحدة مكانية ثابتة

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا اعرف ماذا دفع بالفنان جمال مطر أن يقتحم صيرورة الذاكرة الشعبية لرواية عنتر بن شداد المعروفة بانتمائها للحس الجمعي واسندها اليه دون ان يلفت انتباهنا الى صياغة رؤيا معاصرة ومبتكرة تستند او تتكئ على اصل الوقائع القصصية المتوارثة ويضعها في قالب درامي تكون فيها الجاهزية الفكرية مشبعة وغير مقتحمة بل وقادرة على التفاعل مع احداث عصروية. واذا كان المؤلف قد وضع اشارات صغيرة في نصوص عالمية مشهورة في بنائية فكرته العنترية المستحدثة فإنها لم تكن كافية اطلاقا على احداث شرخ ولو صغير في شمولية ـ واقعة الصراع المعروف في اصل الرواية من احداث وشخوص وامكنة. وعادة ما تثير الاعمال المسرحية التي تستمد مادتها الاساسية من التاريخ الكثير من الجدل والنقاش حولها, سواء رصدت هذه الاعمال هذه الوقائع او اغفلت بعض اجزائها ومدى حرية المؤلف والمعد في التدخل او التصرف بالاحداث والشخصيات وتعديل خطوطها الدرامية لصالح بنية فكرته, فالمؤلف ـ باعتقادي وخاصة في المسرح ـ ليس مؤرخا كي يسند لنفسه هذه المهمة بل هو يعتمد اساسا على الخيال او الابتكار, لا على الالتزام بوقائع محددة تحكمها قوانين التاريخ, قافزا هنا على قانون الدراما (فالمؤلف الجديد) الذي يتمتع بحرية واسعة في تناول بنائية نصه لا يتمتع بها كاملة في تعامله مع المادة التاريخية, وان المبالغة في تحريف احداثها او تحجيم شخصيتها واقحامها عنوة بمفاهيم قسرية وخارج اطار واقعيتها سوف تحجم فعالية صدقها وتأثيرها بالمحيط المتعايشة معه واقصد هنا جمهور اللحظة. لا اريد ان اقف كثيرا عند النص والغور في تفاصيله مع انه يحتاج الى تمحيص وتدقيق بعد التأويل لأن ذلك سيدفعنا الى استقصاء مواقف غير متصلة بالصراع خاصة ان ـ المؤلف المخرج ـ جمال مطر الذي لا نشك مطلقا في قدراته على صياغة بناء درامي قادر على المجابهة مع المتلقي واستفزازه قد غلبته العجالة في الاختيار او ربما طموحه المشروع في قراءة جديدة لقصة عنتر وعبلة اوقعت في يديه هذا الاشكال. وحينما نتناول الاخراج فإن جمال مطر كان يعي ماذا يفعل فور نقل الصراع من المرامي الخاصة لعنتر الى الموقف الانساني منه باعتباره فارس القبيلة وشاعرها بعد ان قام في توليفة صراعات جانبية اكثر حساسية من بؤرة الحدث المركزي اي ان التأويل لديه وصل الى ذروته لاسيما في المشهد الاستهلالي حينما استيقظ (مالك وابن الربيع وعمرو) من غفوة التاريخ والخروج من المتحفية الى الحياة فكانت لمحة ذكية ـ اكدت على خيال خصب ـ تجلت ومع مرور الوقت باستمالة عقدة عنتر فالحرية التي اشتراها في حب غير متوازن كانت بمثابة تفجير حتمي للعلاقات في سياق حديث بعد سبر اغوارها في الوجدان والتفاعل معها بشحنات تاريخية مؤطرة برؤيا ذات اسقاطات واضحة وان تجلت بابعاد ايديولوجية لكنها شبعت بالتفخيم الشعري والزجل العذري فمنحت العمل دفئا ونسقا من المشاعر المؤججة للاحداث, فمن الوهلة الاولى فإن المكان المشبع بمناخية اجواء الصحراء كان الفعل الذي شيد هرمية العرض فاستطاع (المخرج) ان يؤلف وحدة مكانية ثابتة مستغلا مساحات المسرح الارضية في تجوال الاحداث وانتقال المشاهد فيما بقي الفضاء ساكنا غير متحرك او متأثر في زيادة المتعة البصرية عند حدود مناطق الحوار وقد علل لي المخرج ذلك لاسباب انعدام تقنية المسرح فجاء التغييب قسريا مما اثر على امتداد شاعرية المكان, ومع كل ذلك فإن العرض المرئي امتلك حضوره الفني وخاصة بتفاعل مؤديه الذين كانوا مؤثرين قادرين على التنوع في الاداء والامساك بشخصياتهم من الداخل, فالفنان جابر نغموش (شيبوب) استطاع بخفة دمه تصوير معنى مضمون في صياغات تمثيله غلب عليها المحاكاة الساخرة واللمحات التي اضفت روحا مرحة اضافت نكهة للغرص, فيما كشف الفنان موسى البقيش (عنتر) عن موهبة ناضجة لمستقبل قادم خاصة اذا تخلص من بعض تشنجاته, الفنانة لانا الجندي (عبلة) مع ضعف حضورها فإنها مسكت ببعض خيوط عبلة العاشقة فكانت عاشقة ولهانة مهمومة بشكلها اكثر من محنتها. ويقف الفنان مرعي الحليان بدور (ابن الربيع) باداء وبديهة حاضرة. في حين لم يكن للفنانة المجتهدة عائشة عبدالرحمن (زبيبة الجارية) مساحة كافية لاكتشاف قدرتها التي نعرفها جيدا فيما كان خالد البشير (مالك) شخصية مؤثرة تعي ما تقول بعد ان منحها البشير ابعادا سيكلولوجية اكدت على قدرته في صياغات اللعبة. والفنان محمد يوسف غانم (عمرو) بخفة حركته ورشاقته كان مندمجا بدوره الى حد جعلنا لانفرق بين عمرو ومحمد وهي نقطة تحسب لصالحه, انه نمط من الاداء الكوميدي النظيف, عبدالله الجفالي ومحمد عطية طاقات تنتظر فرصتها في اعمال قادمة. ملاحظات خارجة عن ارادة الكتابة لعل من المفيد ان اقف عند ملاحظة تبدو لي اكثر اهمية في صياغات العرض الجديد لمسرحية عنتر وعبلة والتي لا اجد عائقا يحد من فضولي في اكثار الاسئلة للمعرفة الزائدة وهي ضمن همومنا جميعا للوقوف عند التأليف المسرحي ومنابع مصادرة. وحينما سألت الفنان المجتهد جمال مطر عن سبب تغيب شداد عن ساحة الاحداث كان جوابه انه لا عن هناك حاجة لتكرار موقف شداد من عنتر. وانا ارى انه مادام العرض يناقش قضية الحرية فليس هناك مبرر وجيه بتغييب شداد الذي كان الصدمة الاولى في تجريد عنتر من نسبه العائلي واشتداد عذاباته النفسية مع ان شداد كان غليظ القسوة, ضعيف الموقف, قلق ومتردد, فكان الاجدر (وهذا رأي الشخصي) ان ينطلق (المؤلف المخرج) قويا من هذه النقطة في تعميق فلسفته بالعرض الجديد. ظافر جلود البيان

Email