استراحة (البيان)

ت + ت - الحجم الطبيعي

هاي لغة.. هاي انترنت يكتبها اليوم: ظاعن شاهين أثارني خبر اصطدته من شبكة الانترنت, أو بالأحرى التصق التصاقا عفويا مع مجموعة من التقارير والأخبار التي طلبتها من الزملاء المتبحرين في خضم المعلومات والمتخصصين في جلبها بكل سهولة ولين.. وكنت قد طلبت أي صيد يتحدث عن اللغة وأحوالها, بعد ان تداعت الذاكرة بقصيدة حافظ ابراهيم الشهيرة والتي يتحدث خلالها عن حال اللغة العربية وكيف تهاوت في زمانه, ولا أدري ماذا سيقول شاعرنا لو عاش هذا الزمن الذي ماتت فيه المفردة العربية الناطقة وحلت محلها مفردة أعجمية جوفاء, وأقف هنا لأتهم حالي قبل الآخرين, فقد كنت جالسا برفقة الزملاء, وبينما الحديث يتواصل هنا وهناك, طلب أحدهم رقم هاتف شخص نعرفه فاعتذر الزملاء, فتبرعت بذكر الرقم, وواصلت بأنه اتصل بي وبعد ان انهى المكالمة سيّفت الرقم فورا, هنا وقف أحد الزملاء محتجا على المفردة بعد ان تساءل عن معناها, فقلت بأنها جاءت من الكلمة الانجليزية Save وأردفت بأن تلك المفردة شائعة بين الناس مثلها مثل (باركن) هنا التي تأتي من park أي قف في هذا الموقف وغيرها من المفردات التي بدأت تغزو ألسنتنا فنقولها بتلقائية مطلقة دون ان نعلم بأننا نحفر للغتنا كي ندفنها بأيدينا. أعود إلى الخبر الذي استوقفني وأكمل بعدها لأحدثكم عن صيد شبكة الانترنت حول اللغة, فالخبر الذي نقلته صحيفة روسية يشير إلى ان شخصاً يدعى ويلي ميلنيكوف باستطاعته التحدث بحوالي 93 لغة, بل والافاضة في سرد تطورها التاريخي وجذورها الثقافية, فميلنيكوف يتحدث الانجليزية والايطالية والسلوفينية والألمانية واليابانية والبيلوروسية واللاتفية والسنسكريتية والهيروغليفية, إلى آخر القائمة يتحدث تلك اللغات بكل طلاقة, بل ويستطيع كتابة الشعر بها. المثير ان صاحبنا ميلنيكوف لا يعشق أبدا اللغة الفرنسية, بل ويتهمها مشيراً إلى ان اللغة الفرنسية هي اللغة الأشد قبحا في العالم, والأقل جاذبية, أما الأكثر اثارة في أمر هذا الرجل ان اهتمامه باللغات بدأ عندما كان طفلا, اذ شجعه شغفه بعلم أصول الكلمات على تعلم اللاتينية, ولدى احتفاله بعيد ميلاده الثالث عشر اكتشف انه نصف روسي ونصف اسكندنافي وان أجداده جاءوا من السويد وآيسلندا, ودفعه ذلك إلى دراسة لغة جده المنسية. عموما أترك صاحبنا ميلنيكوف الذي تخاصم مع كولونيل في المخابرات السوفييتية عندما كان في الخدمة العسكرية فاتهمه بأنه جاسوس يعمل لصالح دول عدة لأنه يتقن سبع لغات, وعندما سأله عن ذلك الأمر لم ينكر اجادته لتلك اللغات, بل واضاف عليها لغات اخرى منها اللاتينية فاتهمه الكولونيل بأنه يعمل جاسوسا لتلك الدول بما فيها دولة لاتين, والمثير ان الكولونيل مازال يبحث عن دولة لاتين في خرائط العالم دون جدوى! اترك صاحبنا كما قلت سابقا, وأتجه رأسا الى تقارير (انترنتية) , فالانترنت اكتشاف عربي قديم ذكره الشعراء في قصائدهم قبل اكثر من 500 عام, اذ قال الشاعر القديم في ذكر الانترنت, ويأتيك بالاخبار من لم تزود.. لهذا لا نرى فضلا لتكنولوجيا العصر علينا لاننا تفوقنا عليهم قبل مئات السنين ومازلنا بفضل تكنولوجيا الشعر! والسؤال الذي يطرح نفسه في هذه المساحة: أين موقع اللغة العربية من اللغات الحية الاخرى؟ وتأتي الاجابة سهلة مطواعة, فالعربية اليوم تحتل المرتبة السادسة, اذ تتربع اللغة الماندارينية الصينية بلهجاتها وتفريعاتها المختلفة على رأس القائمة بفارق كبير عن اللغة الانجليزية التي كنت اعتقد حتى وقت قريب انها هي الاولى, إلا ان الانترنت اكد على انها تأتي ثانيا رغم العولمة والنقلات التكنولوجية التي تتداخل في اساسها, فاللغة الماندارينية يتحدث بها اكثر من مليار نسمة, بينما يتكلم نحو 508 ملايين نسمة باللغة الانجليزية, وتأتي الهندوستانية ثالثا حيث يتحدث بها نحو 497 مليون نسمة, فالاسبانية التي يتحدث بها نحو 392 مليون نسمة, فالروسية التي يتحدثها 277 مليون نسمة, ثم تأتي اللغة العربية سادسة بنحو 246 مليون نسمة. ورغم ذلك يظل هذا الترتيب غير ثابت لأن اللغة تمتد وتضمحل حسب القوة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعلمية, فلغة كالبنغالية لا أتصور ان تقفز إلى الصدارة بين يوم وليلة وتصبح لغة علم وحياة يومية وتداول إلا بقفزة علمية واقتصادية وسياسية مهولة, وحتى لا اقف اجباريا هنا, انقل لكم قلق البروفيسور الهولندي فريدريك كورتلاندت ازاء ظاهرة اللغة, فقد طالب فريدريك الهيئات الدولية باجراء توثيق سريع لآلاف اللغات الحية حفظا لها من الانقراض بمرور الزمن, وحذر هذا العالم المتخصص في اللغات من انقراض 90 في المئة من مجموع اللغات السائدة في العالم والتي يبلغ عددها 6000 لغة. ويأتي قلق هذا العالم من ان انقراض لغة ما لا يعني انقراض الكلمات فحسب وانما يعني انقراض منظومة كاملة من العلوم والثقافات المتفردة, فالمعرفة باللغات الحضارية القديمة مثل المصرية القديمة والسومرية والفينيقية صارت تقتصر على نخبة من العلماء والباحثين في الوقت الذي اختفت فيه تماما حوالي 1000 لغة قديمة. ويرى فريدريك ان ظاهرة انقراض الشعوب واللغات ليست مقلقة بل انها طبيعية, إلا ان ذلك لا يعني التوقف عن ارشفتها وحفظها والبحث فيها حفظا لتراث وثقافات الشعوب, فتطور اللغات وتاريخها يكشف تطور الحضارات البشرية وتطورها ايضا. عموما عدت من جديد الى حيث وقف حافظ ابراهيم ورددت في نفسي كما رددت اللغة العربية وهي تصف حالها: ايهجرني قومي عفا الله عنهُم الى لغة لم تتصل برواتي سَرت لوثة الأعجام فيها كما سرى لعاب الافاعي في مسيل فُرات فجاءت كثوب ضمّ سبعين رقعة مشكّلة الالوان مختلفات عموما أضع نقطة على آخر السطر وأبدأ من جديد صارخا (هاي) لغة (هاي) انترنت!

Email