استراحة البيان: إلى الجاحظية، جمال الغيطاني

ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ أن نزلت إلى الجزائر للمشاركة في أيام الأدب العربي, وأنا أضع ضمن أولوياتي لقاء الطاهر وطار, أو كما يطلق عليه الجيل الجديد من الشباب هنا (عم الطاهر).لأسباب لا أعلمها لم يشارك في الملتقى, وعندما أصغيت إلى صوته عبر الهاتف, صحت مرحبا : (كيفك يا مولانا) وجاء صوته الذي اعتدته بنبراته الجزائرية محملا بحس ساخر دفين. (بخير يا مولانا) هكذا نتخاطب منذ لقائنا الأول في الاتحاد السوفييتي (سابقا) عام سبعة وثمانين من هذا القرن. كان ذلك في موسكو, ثم قمنا معا برحلة إلى آسيا الوسطى, زرنا خلالها سمرقند وبخارى وطشقند, وخلالها استوحيت أحداث روايتي (رسالة في الصبابة والوجد) . غير أنني عرفت الطاهر قبل لقائنا هذا عندما قرأت له روايته (الشهداء يعودون هذا الأسبوع) والتي طبعت في بغداد خلال السبعينيات, ولو قرأت هذه الرواية الآن لرصدنا فيها نبوءة مبكرة بما شهدته الجزائر من أحداث مؤلمة في السبعينيات, عرفنا الطاهر من خلال إنتاجه قبل أن نراه, وكان موهبة طبيعية, وأصيلة, من الأدباء الذين يكتبون باللغة العربية في هذا الوطن العربي العزيز الذي يعيش انشطارا ثقافيا حادا, كان من نتيجته تلك الأحداث الدموية. كان الطاهر وطار والمرحوم عبد الحميد بن هدوقة من أبرز الأدباء الذين يكتبون بالعربية ويدعون لترسيخها بما يتفق مع تاريخ وهوية الشعب الجزائري, ومن الجيل التالي لهما الروائي جيلالي خلاص, وعشرات من الأسماء الشابة التي تكتب بالعربية وتبدع بها. منذ عشر سنوات أصدر الطاهر مجلة التبيين التي كانت أساسا لجمعية الجاحظية, في البداية اتخذ لها مقرا في بيته, ثم انتقل إلى منطقة شعبية قريبة من الميناء, يبدو المدخل صغيرا, لكن في الداخل يمكن أن تتجول في مركز ثقافي متكامل حيث صالة لعرض اللوحات الفنية, واستديو لتسجيل الموسيقى, وصالة للعروض المسرحية والسينمائية, ومطبعة حديثة جدا قدمت من مؤسسة الأمير كلاوس الثقافية الهولندية بتدخل من الدكتور نصر أبو زيد. ويبلغ ثمنها عشرين ألف دولار. لعبت الجاحظية دورا هاما في دعم الأدب العربي بالجزائر ورعاية الأدباء الشباب, بعضهم شب ونما وكون جمعيات ثقافية أخرى تلعب دورا هاما وحيويا الآن, لكن الجاحظية يظل لها فضل الريادة, والاستمرار, في العدد الرابع عشر من التبيين يقول الطاهر وطار: (مع صدور هذا العدد يكون قد مر على إنشاء الجاحظية وعلى صدور أول عدد من التبيين عشر سنوات, وطوال هذه العشر سنوات, عملنا مستميتين للمحافظة على الثبات في: الميدان, المبادئ, الالتزامات, فلم نتغيب شهرا واحدا عن الساحة الثقافية بالمحاضرات والأمسيات الشعرية والقصصية والمعارض الفنية والمهرجانات, ولو كانت في بعض الأحيان محتشمة, ولم يتخلف صدور التبيين سنة واحدة, ولئن كان المفروض أن نصدر عشرين عددا أي معدل عددين في السنة, فان أوضاعنا المالية وأوضاع المثقفين الجزائريين عموما لم تسمح سوى بإنجاز 14 عدداً وأجبرنا على التخلي عن ثلث ما كان يجب إنجازه. وبالمقابل أصدرنا ستة أعداد من القصيدة (مجلة متخصصة في الشعر) وعددين من مجلة القصة, وأكثر من ستين عنوانا في الشعر والقصة والرواية. يقول الطاهر وطار إن ما أنجز قليل وكثير, قليل بالنسبة لحاجة الجزائر الثقافية التي تعاني فراغا مهولا, وكثير بالنسبة لظروف الجزائر الصعبة, ظروف الأمن العام, ظروف التحول من اقتصاد اشتراكي إلى اقتصاد رأسمالي تم فيه التخلي عن كل شيء وخاصة الثقافة, ظروف تهتز فيها ثوابت المثقفين فيما آمنوا به. وفي بيان التبيين يحدد الطاهر ستة أركان أساسية للمجلة, أهمها إدراج البحوث اللغوية في ركن خاص تتقاسمه مع البحوث الأدبية تشجيعا لهذا النوع من الدراسات التي خلت منها أعداد المجلة السابقة, ويلتقي هذا مع أهمية المشكلة اللغوية التي تعاني منها الجزائر. يوجه الشكر إلى اخوان دعموا نشاط الجاحظية, يقول الطاهر: لقد دعمنا أشقاؤنا في العالم العربي وأخص بالذكر منهم الشاعرة الدكتورة سعاد الصباح التي تنقذنا من حالة إفلاس سنويا وكذلك الشاعر عبدالعزيز سعود البابطين والدكتور نصر حامد أبو زيد. وإذا كانت جهود هؤلاء محمودة, إلا أن الجزائر مازالت في حاجة إلى دعم كل قادر على مساندة الجهود التي تستهدف دعم اللغة العربية, والأدب العربي سواء تلك التي تقوم بها الجاحظية أو غيرها من جمعيات وجهود يقوم بها الجيل الجديد من الأدباء الذين يحفظون للجزائر أصالتها وقسماتها العربية. الاثنين صباحا فندق حديث أقيم خلال السنوات الأخيرة, مطل على الميناء, وعلى مدينة الجزائر, لونان غالبان, الأبيض, الأزرق, الأبيض للمنازل, تتوزع متدرجة على المرتفعات الصخرية, ثمة مبنى ضخم في المواجهة, أنه فندق الاوراسي, قدمته مصر هدية إلى الثورة بعد انتصارها أوائل الستينيات, الأزرق للسماء والبحر, أفكر.. إنه نفس البحر الذي تطل عليه الإسكندرية. الاثنين ظهرا مفيد زكريا شاعر شهير, أطلق اسمه على قصر الثقافة الرئيسي, المبني في نقطة مرتفعة مهيمنة على المدينة, مشيد على الطراز الأندلسي, في قاعته الرئيسية تعقد أيام المؤتمر, في قاعات العرض الرئيسية دور النشر المشاركة, أحد أهدافي من الزيارة العودة بالكتب المطبوعة في الجزائر ولكني فوجئت أن معظم المعروض بالفرنسية, لم أر إلا عناوين عربية تعد على أصابع اليد الواحدة, حتى دور النشر الفرنسية كان وجودها محدودا. داخل قاعة المؤتمر وعلى مدى ثلاثة أيام كان يجري عرض موجز, مركز للواقع الراهن في الجزائر بكل ما فيه, في اليوم الأول طلع إلى المنصة الدكتور عثمان سعدي وهو من أشد المدافعين عن اللغة العربية في الجزائر, قال ان هذا المعرض ضد الثقافة العربية, وطالب بإحالة المسئولين عنه إلى التحقيق, وقال ان بلدا عربيا شقيقا قرر المساهمة (عرفت فيما بعد أنه المغرب) وصلت الكتب إلى المطار, وزنها طن ونصف, لم يفرج عنها, قال ان الكتب عوملت كالمخدرات, وأعادوها من حيث أتت, طالب بالاعتذار للبلد العربي الشقيق, وتعويضه, وناشد رئيس الجمهورية التدخل, وقال ان بوتفليقة أدخل مصطلحا جديدا عندما قال نعم للعولمة عبر العروبة, وقال انه ليس ضد الفرانكفونية, ولكنه ضد النفي, أن ينفي طرف الآخر. ممثل اليونسكو رد على الدكتور السعدي: قال ان المؤتمر لا يعكس موقفا نتيجة تأثير أي طرف كان وأنه جاء بمبادرة من اتحاد الكتاب الجزائريين والشاعر أبو القاسم خمار, قال ان الثقافة منذ الاستقلال مغيبة, وكان ذلك له أثره في تهميش المثقفين, الفلكلور اصبح ثقافة, المهرجانات أصبحت ثقافة, أما الثقافة الحقيقية فمغيبة (قلت لنفسي الحال من بعضه!), قال انه لم يتم الاعتراف بالثقافة كمؤسسة إدارية إلا بعد عشرين سنة من الاستقلال, قال ان الشعر حورب في جميع أشكاله (الفصحى والعامية) وعندما غاب الشعر عن الجزائر غابت الرحمة. الإنسان يشعر بألم الوردة, ولكن الحرب والقتل أديا إلى القسوة وهما أيضا نتاج لها. شاعرة من منطقة القبائل (البربر) اسمها كريمة, وقفت لتقول أنها لا تريد أن تصبح أوروبية, لكنها تطلب من أخيها العربي أن يعترف بلغتها البربرية, وقالت انها تكتب بالفرنسية لكنها جزائرية, وأنها لم تغادر الجزائر وقت الأحداث. بدا واضحا في القاعة جوهر الصراع الذي دار ويدور الآن, انه حول هوية الجزائر, ثمة قلة منظمة, متنفذة ذات نفوذ, تريد انتزاع الجزائر من تاريخها وثقافتها العربية وإلحاقها بالضفة الأخرى, من المثير ما سمعته من بعض المثقفين أن انتشار اللغة العربية بعد الاستقلال أصبح أضعف من أيام الاستعمار رغم جهود التعريب, لكن ما أثار الأمل حقا, أولئك الشباب (في العشرينات) الذين جاءوا إلى المؤتمر يحملون كتبهم التي طبعوها على نفقتهم. ولكم يكلف هذا, قدموا إلي مجموعة قصصية ودواوين شعرية, حرصت على حملها في حقيبتي لنعرف بها في أخبار الأدب, لمصر دور خاص في الجزائر, كان ذلك أيام الحرب من أجل الاستقلال, وكلفنا ذلك كثيرا, بعد الجزائر أقام في الجزائر عشرون ألف مدرس لتعليم اللغة العربية, كانت مصر تدفع رواتبهم, الآن لا تحتاج مصر إلا لدعم وجودها الثقافي, إيصال المطبوعات المصرية, هذا لا يتم لأسباب عديدة, ولكن الذي عوض قصور الأجهزة المصرية والثقافية المشغولة بالمهرجانات, والغائب عنها دور مصر الثقافي الذي عوض ذلك الفضائية المصرية. من يصدق أن المسلسلات المصرية والأفلام المصرية القديمة من أقوى الأسباب الفاعلة لتقوية اللغة العربية, كل من تعرف إلي كان يتحدث بالعامية المصرية, أحد أفراد الأمن قال لي مداعبا (نفسي آكل ملوخية بالأرانب) . ضحكت قائلا (والله لو أعرف الطبخ لأعددتها لك) . الثلاثاء ظهرا: صحفي كبير: الطاهر وطار أكبر روائي يكتب بالعربية, صديق حميم, نشرنا في أخبار الأدب روايته الشمعة والدهليز, لم يشارك في أعمال المؤتمر, حرصت على زيارته, طلبت من الصديق عز الدين ميهوب أن أترك على سجيتي حتى أرى البلد جيدا, خاصة أن مظاهر الحياة العادية مشجعة, صحيح أن الصحفيين رقم واحد في مجال الخطر, لكنني مؤمن بأن الأعمار مقدرة وحدودها عند الله, فلن ينجي حذر من قدر. خرجت من الفندق بصحبة صديقي جيلالي خلاص, وهو روائي مدهش وشخص جميل الطبع, ركبنا سيارته المسماة بذلك من باب الاستعارة, ذكرتني بعربة الروائي إبراهيم اصلان, إذا أمسكت بمقبض الباب لا يفارق يدك, وإذا جلست على مقعد يميل إلى الخلف, لا زجاج نوافذ, وربما لا زجاج أمامي, السيارة تتحرك فتسعل, وتتحشرج, وتعطس, لهذ ا كانت وقفاتها كثيرة في طريقنا إلى المركز الثقافي الذي أنشأه الطاهر وطار وأطلق عليه (الجاحظية) . مع كل وقفة يرتفع صياح جيلالي, وهو حاد الصوت, وفي إحدى المرات اشتبك مع رجل يقود سيارة أخرى, ونزلا إلى ارض الشارع, صاح جيلالي: أنظر إلى من تتحدث؟ أيش تكون يعني؟ أشار جيلالي إلى زاعقا بصوت وصل إلى المدينة كلها هذا صحفي مصري كبير .. أحملك مسئولية تأخيره. وراح يردد, هذا صحفي مصري كبير, عندئذ نزلت من العربة بهدوء, ودخلت أول تاكسي فارغ, طبعا خفت من هذا الإعلان عن وجود صحفي مصري كبير. سامحك الله يا جيلالي.

Email