استراحة البيان: تلك الأيام الأكتوبرية، يكتبها اليوم جمال الغيطاني

ت + ت - الحجم الطبيعي

ها هي الأيام تولي, يوشك أكتوبر على الانتهاء, آخر أكتوبر في القرن العشرين, في العام المقبل ستصبح الأيام التي كنت شاهدا عليها عام ثلاثة وسبعين من أحداث قرن مضى, شيئا فشيئا لن تبقى منها إلا أصداء تعاودنا, وفي كل سنة تتسع المسافة, وتنأى الشقة, تلوح المعاني قدرا يسيرا من الزمن ثم تولى . سبعة وعشرون عاما مضت الآن , وقد كنت شاهدا على ما جرى لأنني شاركت فيما حدث بقدر من خلال عملي كمراسل حربي لجريدة الأخبار . الأطفال الذين ولدوا يوم السادس من أكتوبر يمضون الآن إلى تمام العقد الثالث . الذين حاربوا يوشكون على إتمام الستين. الذي قادوا التشكيلات والوحدات بعضهم الآن تجاوز العقد السابع, ومنهم من رحل, أطال الله في أعمار من بقوا. الزمن يمضي واستعادة الصبر ضرورية, خاصة من الشهود الذين عاشوا الوقائع, بعيدا عن الأناشيد الحماسية, والألفاظ التي لا تعكس بدقة الواقع, فماذا تبقى وأي دروس يجب أن نعيها؟ نصوع الهدف, وضوحه, تحديده كان ذلك أهم ملامح أكتوبر , والطريق الذي مهد إلى أكتوبر خلال حرب الاستنزاف التي دامت قرابة عامين على الجبهة المصرية, كان هناك هدف جلي, واضح, يتمثل في أرض عربية محتلة, تدنسها أقدام غريبة, ويرفرف فوقها علم غريب, وكانت هناك جبهة محدودة, فيها قناة السويس, مانع مائي صعب, يجري التحضير لعبوره, وقهر دفاعات العدو الحصينة المطلة عليه, اذكر في عام ألف وتسعمائة وسبعين أنني شاركت في مناورة تدريبية كبرى قام بها الجيش المصري , وعندما وصلنا إلى ترعة الخطاطبة الممتدة في الصحراء الغربية ذهلت, إذ وجدت نفسي أمام نموذج مطابق تماما لقناة السويس, وتحصينات خط بارليف ومواقعه, صورة طبق الأصل, لم تكن الترعة تشبه قناة السويس في المظهر, بل في الجوهر أيضا , فسرعة تيارات المياه مماثلة لسرعتها في القناة, وعرضها أيضا مماثل لعرض القناة, أما نماذج النقاط القوية الحصينة لخط بارليف فكانت مطابقة تماما , حتى في عدد لفات الأسلاك الشائكة التي تغطيها, كأن نموذج الهدف أمام القوات التي راحت تتدرب عليه لسنوات, ولم يكن مجرد وضوح الهدف, إنما كان هناك العلم. العلم والتخطيط عنصران هامان أديا إلى أكتوبر, لم تكن هناك قوى خفية, ولم يكن هناك شيء خارق ساند الرجال وهم يثبون الوثبة الكبرى , كان هناك العلم, التخطيط, وضع حساب كل أمر مهما دق, كان هناك الاستطلاع الجيد, معرفة عدد قوات العدو, عاداتها, مواقعها, تسليحها, وخلال حرب الاستنزاف تراكمت خبرات هائلة, خاصة في مجال الحرب الإلكترونية , والدفاع الجوي, بعض هذه الخبرات أصبحت الآن من أخبار التاريخ, ولكن في ذلك الوقت الذي قدر لي أن اشهده, كانت الخبرة تتعلق بمصائر بشر, وتاريخ وطن, أذكر أنني كنت في قاعدة أبو صوير الجوية ذات يوم من أيام حرب الاستنزاف, كانت قواتنا قد تمكنت من إسقاط طائرة استطلاع إلكترونية متقدمة تطير في العمق كان اسمها ستراتد كرزر. وبدأت حالة تأهب في قواعد الدفاع الجوي توقعا لضربة انتقامية مضادة, وبالفعل أطلق العدو عدة صواريخ من طراز شرايك المضادة لمحطات الرادار , كان العدو قد أحاطها بدعاية كبيرة في ذلك الوقت, وكانت مزودة بعقول إلكترونية تحتفظ بترددات أشعة الرادار , ومن ثم فلا يمكن تضليلها, ولكن هذه الصواريخ طاشت عن أهدافها بعمل مضاد قام به رجالنا, أعدوا له ونجح , وكانت ليلة لا تنسى, يتبادل فيها الرجال المرابطون في الخنادق كلمة "مبروك". كان التخطيط محكما, وعملية عبور القناة ذاتها مثال عليه, على دقته وإحكامه , كان كل مقاتل مدرباً, عالماً بموقعه, بتوقيت عبوره إلى الضفة الأخرى , كانت المعدات والتجهيزات المزود بها قد تم دراسة نوعياتها, وأوزانها, وتم التوصل إلى الأفضل . كان كل شيء مخططاً له, على أساس علمي, وكانت هناك العناصر المعنوية وتلك لا تقل أهميتها عن العناصر المادية في أرض الواقع. لم يرو لي أحد, لم أقرأ في صفحات سطرها الآخرون, ولم أسمع ذلك, ولكن عشت ورأيت, اندفاع مقاتل صوب دبابة ليفتح غطاءها ويقذف بقنبلة يدوية داخلها, مدمرا لها ومعرضاً نفسه للموت المؤكد , تقدم مقاتل صوب فتحة في موقع حصين (مزغل) ليسدها بجسده, حتى يوقف سيل النيران المتدفقة صوب زملائه, اختياره الموت بقرار داخلي بحت منه, لينهي وجوده البشري المحدود ليذوب في الوجود الأعم , الاشمل , ذلك الذي نطلق عليه أسم (الوطن) . رأيت ذلك, وعشته, بل و شهدت ما هو أكثر, ما تكاد صحف النسيان تطويه, والسبب, ظروف سياسية بعد الحرب لا تتناسب إطلاقا مع الأداء القتالي, وتضحيات الرجال خلال الحرب ذاتها, هذه الفترة الفذة على العطاء بدون انتظار المقابل والتي برزت خلال الحرب, حلت محلها في السنوات التالية قيمة الأخذ بدون عطاء, النهب, الهبر من قلة كونت ثروات ضخمة, هائلة من المال الحرام, كيف يمكن استعادة ما كان من قدرة على العطاء إ ذن ؟ ما عشته أيضا , ذلك التضامن العربي الفريد والذي لم يقدر له الاستمرار للأسف, في جبهات القتال, رأيت مقاتلين من كافة الأقطار العربية, تراوحت المشاركة بين الجهد القتالي الجبار, والمشاركة الرمزية, تحققت الوحدة العربية بالفعل من خلال الدم, والشظايا, كان هناك هدف واحد, واضح, محدد, هذا الهدف مازال قائما لكن تراكماً من ضباب ورؤى غيمية خلال السنوات الطوال الماضية حجبته عنا, فكيف نستعيد تلك المعاني والعبر التي تجسدت بالفعل فوق أرض الواقع, كيف نتمثلها في كل وقت, وليس المناسبة فقط, وكأننا نحتفل بأثر تاريخي مندثر , كيف؟ التسلم استرجع دائما أيام أكتوبر في غير موقع تكرارها من مسيرة الزمن, أفضل استعادة تفاصيلها ومغزاها ودروسها, لكن .. في غير المناسبة التي تعلو فيها الأغاني الفارغة من المعنى, والكلمات العابرة, ومن المشاهد الفاصلة في حياتي على المستويين الشخصي والعام, رؤية "العلم", العلم حجمه المادي محدود جدا, مجرد قطعة من القماش, مشدودة بحبل إلى صاري, لكنها رمز لكينونة, وإشارة دالة على تاريخ وزمن, تلك بديهيات, بديهيات ربما لن تدور بخلد الصغار وهم يقفون في صباح كل يوم لتحية تلك القطعة من القماش عند رفعها وتحيتها في أفنية المدارس. العلم المصري الآن من ثلاثة ألوان, الأحمر , الأبيض والأسود , يتوسطه صقر قريش, العلم الذي سبقه أخضر اللون, كان يتوسطه هلال ابيض ونجوم ثلاثة, وبالنسبة لي شخصيا فأنا أفضل العلم الأخضر , اللون, لأنه أول ما رأيت في طفولتي, وأول ما وقفت لأحييه, ومازلنا نراه في الأفلام المصرية القديمة فيتحرك الحنين, ولكن العلم الحالي له موقع مقدس في النفس, فقد كان بأيدي القوات المسلحة المصرية عند عبور قناة السويس, وتم رفعه فوق مواقع خط بارليف في أول انتصار ساحق للقوات المسلحة المصرية على العدو الصهيوني. على أية حال.. العلم رمز مطلق أياً كان لونه .. المهم ما اتفق عليه الجميع, وللناس في بلادي علاقة خاصة بالعلم, تراهم يضعونه فوق البيوت, في الأعياد والمواسم, وفي ليالي الأفراح يعلقون الأعلام في حبال طويلة ممتدة, رمزا لاندماج الخاص بالعام, واعتزازا بفكرة الوطن, ومضمونه أيضا , ولكن خلال الحروب يصبح لهذا الرمز معان أخرى, شتى, يكتشف فيها الإنسان ما كان يجهله, وما لم يره من قبل, ما يتجاوز حدوده المادية بكثير, ولقد رأيت العلم المصري يرتفع في ظروف استثنائية شتى, في ديسمبر 1969 خلال حرب الاستنزاف , عبرت كتيبة مشاة كاملة بأسلحتها المعونة إلى الضفة الشرقية, واحتلت إحدى النقاط القوية لخط بارليف, ورفعت العلم المصري لمدة أربع وعشرين ساعة كاملة, وقد رأيت هذا العلم الذي لا ادري أين ذهب وجوده المادي الآن, رأيته عند الغروب, ومن الضفة الغربية للقناة. في نفس الشهر عبرت قوة من رجال الصاعقة إلى النقطة القوية في منطقة لسان بور توفيق, وحررت الموقع لمدة أربع وعشرين ساعة, وارتفع العلم المصري , سمعت عنه والتقيت بالرجال بعد انتهاء العملية, ولكن قدر لي في زمن الحرب أن أرى وأن أعيش لحظة رفعه وسقوط العلم الإسرائيلي إلى الأبد فوق هذا الموقع بالذات. صباح الأحد السابع من أكتوبر وصلت مع زملائي المراسلين الحربيين في أول ضوء, وهذا تعبير عسكري جميل, أول ضوء وآخر ضوء, وفيهما تحل لحظات سكون تحسبا للمفاجأة, وصلنا إلى الجبهة الوسطى في منطقة الإسماعيلية , لم نكن قد استوعبنا بعد ما جرى, ما سمعناه في البيانات العسكرية منذ ظهر السبت أن قواتنا تحارب الآن فوق الضفة الشرقية للقناة, وتطارد قوات العدو بنجاح. كنت أمضي إلى الجبهة بخلفية مستمدة من سنوات حرب الاستنزاف, تفوق الطيران المعادي, القصف المدفعي, ضرورة الحذر عند الاقتراب من القناة, فالعدو يتمركز فوق الضفة الشرقية وقد كانت أعلى وأكثر ارتفاعا لان الردم الناتج عن حفر القناة كان يلقى إلى الشرق وليس إلى الغرب. ولكن مع تقدمنا صوب القناة كانت ملامح المكان مختلفة تماما , طوابير القوات المتجهة إلى الشرق , الحالة المعنوية على الوجوه, طرق مهدت تتجه صوب القناة, ألفاظ جديدة دخلت قاموس اللغة. كان سائق سيارتنا يسأل زملاءه الجنود عن الطريق إلى المعبر. المعبر, لأول مرة أسمع اللفظ, وعند الاقتراب من مياه القناة ورؤية المعبر وقعت العين على العلم المصري فوق الضفة الشرقية, أنصهر الحذر, وتبددت كل المخاوف, فهذا علم لم يرتفع في طقوس احتفالية ولكنه غرس هنا بالدم, رحت أتطلع إليه مبهورا, وكأنني أواجه مشرق الشمس, ثم اندفعت ! لكن .. فرق كبير بين أن تشهد العلم مرفوعا فوق قطعة من الأرض محررة كانت أسيرة حتى مساء أمس, وبين أن ترى لحظة ارتفاع العلم بعد نزول علم العدو, ودهسه بالأقدام . هذا ما رأيته صباح السبت الثالث عشر من أكتوبر منذ ستة و عشرين عاما, كان ذلك في مواجهة النقطة القوية لموقع لسان بور توفيق بعد حصارها لمدة أسبوع من رجالنا , أنه الموقع الوحيد الذي استسلم بحضور الصليب الأحمر , رأيت خروج سبعة وثلاثين مقاتلا معاديا من فتحة دائرية أعلى الموقع تشبه غطاء البالوعات في مدننا. كانت هناك قوة من مقاتلينا تعبر المياه في قالب مطاطي تحمل العلم الذي سو ف يرتفع فوق الموقع. أنني أغمس قلمي الآن في مداد الذاكرة واسترجع تلك اللحظات فتأتيني نافرة يقظة وكأنها ماثلة أمامي. عندما وصل الرجال إلى حافة الموقع الذي كان يرتفع كجبل صغير انتظموا في طريق صاعد يتقدمهم حامل العلم كان يرفع ذراعيه إلى أقصى مدى محاذرا تماما أن يلامس العلم الأرض, لمجرد ظهوره ارتفع التكبير والهتاف بحياة مصر, المشهد له حضور خاص, واللحظات تنتظم في زمن خاص بها, يذكر بعض المقاتلين رفاقا لهم استشهدوا بنيران هذا الموقع, آه لو أمتد بهم الأجل ليروا هذه اللحظات, يصلوا الرجال إلى أعلى الموقع, يحفر أحدهم الأرض, يثبت الصاري, ترتجف القلوب, لا يستوعب الحضور المادي للبشر ما تثيره هذه اللحظة من مشاعر, التأثر يدفع الدمع إلى العيون, الصيحات ترجف الأرض, الله وأكبر مرات ثلاث, تحيا جمهورية مصر العربية ثلاث مرات أيضا. يرفع قائد التشكيل يده بالتحية العسكرية, تستمر هتافات الجنود, تبادل العناق, كان الوطن كله بحاضره , بعمقه حاضرا هنا. في هذا اليوم أدركت ما يعنيه رفع العلم, لحظة انتصار, إنها تتجاوز كل شيء, تعلو فوق الحيوات المحدودة نفسها, تصل الحلم بالواقع, والتمني بالتحقق, تقصي الخوف وتزدري بخطر الموت. اذكر هذه اللحظات المهيبة عندما ارتفعت أصواتنا جميعا ننشد بلادي بلادي لك حبي وفؤادي. استعيد هذه اللحظات دائما ليس في مناسبة الاحتفالات بأكتوبر ولكنني ألجأ إليها دائما عندما يوشك الوهن أن ينال مني. وعندئذ أتساءل: من سيقدر له أن يشهد لحظات مماثلة في المستقبل؟

Email