استراحة البيان : أبو معشر الفلكي! يكتبها اليوم محفوظ عبد الرحمن

ت + ت - الحجم الطبيعي

لو قلت لك أنني لا أهتم بالأبراج وقراءة الكف والفنجان وتفسير الأحلام وما شابه.. فهل ستصدقني؟ ولو أكدت لك أنني لا أكترث بهذه الأشياء هل ستراني إنسانا طبيعيا؟! أظن أنني حالة خاصة إلى حد أنني كنت موضع اختبار طريف فلقد كنت في أحد الفنادق عندما قابلت عددا كبيرا جدا من معارفي بالصدفة الأمر الذي أثار دهشتي . ربما كان من الطبيعي أن تقابل عند سفرك بعض معارفك بالصدفة. أما أن تلقى كل هؤلاء في يوم أو يومين.. كان شيئا لابد له من تفسير. والمبرر كان مدهشا.. فهؤلاء جميعا أتوا إلى الفندق ليروا أحدهم.. ولا أدري ما أسميه.. فهو ينفي أن يكون ساحرا. وأعتقد أنه قد يوافق إذا قلنا أنه قارئ للغيب! وكان الرجل من فرط التهافت عليه يرفض مقابلة الناس.. ويتهرب منهم. وقدم الجميع الرشاوي لعمال الفندق لكي يبوحوا لهم بمكان (قارئ الغيب) !. وبالطبع استطاع بعضهم الوصول إليه. ولعله كان يقصد ذلك فتلك مهنته في النهاية التي يربح منها أموالا كثيرة. فلقد كان مطلوبا منك ألف دولار عند عبور عتبة جناحه المقدس. ولسبب ما ذكرني أحدهم عنده ربما لأنه أراد أن ينتظره عندي. ثم تكرر ذلك مع صديق آخر. وتساءل (قارئ الغيب) لماذا لم أحضر إليه؟ وسارع أصدقائي يزفون إلي بأن السيد وافق على أن أكون من زبائنه. واعتذرت لذهولهم ـ ولهم حق ـ فلقد كان علية القوم يجلسون في الردهات بالساعات. ويبدو أن رفضي أثار صاحبنا. وفوجئت به يتصل تليفونيا. ويطلب مني زيارته في جناحه المقدس. وكنت في أحسن حالاتي فاعتذرت له لأنني مشغول. ويبدو أنه لم يصدق أن شخصا يرفض مقابلته. وربما تصور أنني حريص على الألف دولار التي تفتح الباب المقدس.. فأكد لي أنه لن يتقاضى أجرا مني. وأبديت دهشتي المصطنعة طبعا. قائلا له أنني لا أتخيل أن أطلب من أحد أن يقرأ لي الغيب.. ليقيني أنه لا يوجد شخص يعرف الغيب. هذه التجربة كانت أفظع تجربة في رفض التعامل مع هؤلاء القوم. والناس ـ كما تعرف ـ يهرعون إلى كل من يزعم أنه يعرف الغيب. وبالطبع أنت تملك قصصا تؤكد بها أن فلاناً كان يعرف أو أن شخصا قال كذا أو فعل كذا.. وكان كلامه صحيحا. ولا مانع أن تؤكد ما تقول بأنك لا تؤمن بهذه الأشياء.. وترفضها رفضا تاما (لكن فسروا لي يا جماعة ما حدث) .. وأنا مثلك أملك قصصا كهذه: مثلا كنت أدخل إلى مكان يبدو أنهم كانوا يتحدثون فيه عن الأبراج.. فقال أحدهم مشيرا لي: هذا مثلا لابد أن يكون من برج القوس! ولم أقابله من قبل. ولقد سألت المهندس سعد شعبان عن الأبراج. وسعد شعبان هو من أهم الشخصيات في فترة السبعينيات والثمانينيات.. وإن لم يعرف هذا إلا قلة. إنه من الذين يحبون العمل من وراء ستار. ويعتبر سعد شعبان أيضا من أكبر علماء الفلك. قال لي: إذا كنت تسأل عن تأثير الأفلاك على الإنسان فهذا مؤكد. انظر إلى القمر إنه يؤثر في المد والجزر. والإنسان معظمه ماء.. ألا تعتقد أن القمر يؤثر في الإنسان أيضا ولقد لاحظ القدماء هذا فابتكروا جنون القمر.. وما شابه. لكن للأسف علاقة الأفلاك بالمزاج الإنساني لم تدرس بعد. إنها علم في بداية الطريق. أما من يتحدثون عن الأبراج فلا أظن ـ مازال سعد شعبان يتحدث ـ أنهم يعرفون ما يتحدثون عنه. ربما كانوا ينقلون معلومات القدماء. وربما كان أفضلهم يحاول استخلاص أوجه التشابه بجهد شخصي. وعندما عملت في الصحافة.. وكنت طالبا في الجامعة.. كان المسئول عن المجلة الأسبوعية التي عملت فيها سعد الدين وهبة. وكان سعد الدين وهبة فضلا عن أنه ضابط شرطة تخرج من كلية الآداب. وكان من زملائه في الكلية أحمد إسماعيل. وكان سعد الدين وهبة يدين له بأنه ساعده أثناء الدراسة.. إذ أن أحمد كان طالبا منتظما.. كما أنهما كانا يذاكران معا. حقا كانت درجات سعد أفضل من درجات أحمد. لكن ذلك كان موضوعا آخر. وأراد سعد الدين وهبة أن يجامل زميله القديم.. فأتى به ليعمل مصححاً في المجلة.. ولكن أحمد كان يريد أن يكون صحفيا.. فطلب أن يقوم بعمل صحفي. فكلفه سعد الدين وهبة بكتابه باب (حظك هذا الأسبوع) . وفيما بعد قال لي إن المسألة من أبسط ما يمكن. عشرون توقعاً للحظ.. يتغير مكانها كل أسبوع.. ما كان في برج القوس يذهب إلى السرطان وما كان في الأسد يذهب إلى الحوت. والناس يقرأون برجهم فقط. وكانت بين سعد وأحمد مشاحنات دائمة. فلم يكن أحمد مقتنعا أن زميله القديم صار كاتبا كبيرا.. وصحفيا هاما.. وقريبا من السلطة. وكانت مشاجراتهما الدائمة حول المرتب والعلاوات. ورغم تجاوز أحمد للحدود أحيانا.. إلا أن سعد كان ضعيفا أمام الزميل القديم. واكتشف أحمد إسماعيل نقطة ضعف سعد الدين وهبة. وهي أنه كان متطيرا.. يشغله التشاؤم والتفاؤل. وأذكر أن سعد الدين كان تليفونه تليفون (حانوتي) من قبل.. وكما كان يقول الناس لا تلجأ إلى (الحانوتي) إلا في الليل. وكان أي تليفون من هذا القبيل يفسد يومه كاملا. المهم أن أحمد اكتشف نقطة الضعف هذه.. فبدأ يشاكس سعد في باب (حظك هذا الأسبوع) وأخذ ينتقي لبرج الدلو أسوأ ما يمكن اختياره مثل (كارثة) .. (مصيبة) .. ومن المدهش أن سعد كان يقرأ هذا الباب ويضيق بما يقرأه رغم أنه كان من تأليف أحمد إسماعيل.. الذي كان علمه بالنجوم مثل علمنا بالهندسة! هاجمتني كل هذه الأفكار.. عندما أخذت أبحث عن كتاب في تحويل النحاس إلى ذهب! وكانت هذه آفة العلماء إلى وقت قريب.. ولا شك أنها كانت الأساس في تطوير الكيمياء. وبالطبع لم أكن أسعى إلى تحويل النحاس إلى ذهب.. فأنا أحب النحاس وأعتقد أنه أجمل ألف مرة من الذهب.. بغض النظر عن القيمة المادية. لكنني كنت أريد أن أعرف كيف يفكر الإنسان الذي يسعى وراء هذا الوهم. وتذكرت أن لدي كتبا في هذا الموضوع. ولأنني أرى أنها كتب غير هامة.. فلقد أبعدتها إلى شقة صغيرة بعيدة عن البلد. ولقد علمتني هذه التجربة أنك إذا كنت تعمل في الكتابة لن تعرف الكتاب الهام من غير الهام. وقلبت الدنيا على كتب الخرافات هذه فوجدت كمية كبيرة منها لا أدري متى اشتريتها ولا لماذا اشتريتها وحملتها على استحياء إلى البيت.. وحاولت ألا يراها أحد.. لكن عندما لمحها بعضهم إذ بها تثير ضجة هائلة. ويبدو أن الخرافة مازالت تعيش بيننا. وكان الكتاب الأكثر إثارة هو (أبو معشر الفلكي) .. ولعلك تتساءل من هو أبو معشر الفلكي؟ ولكن منذ خمسين عاما كان أبو معشر الفلكي أشهر من المتنبي. وإذا دققت في المسرحيات والأفلام القديمة ستجده مذكورا. وحسب ما جاء في صور الكتاب أبو معشر الفلكي (فيلسوف يوناني) وهي نكتة لا تصدر إلا من مخرف. ولكن في مثل هذه الأشياء نسبة ما تقول إلى هندي أو يوناني أو صيني تعطي لما تقول لمسة صدق. ولقد قلبت الكتاب فوجدت أن ما فيه هو نفسه ما ينشر اليوم.. وكأن الإنسان لم يتقدم. وكأن الخرافة أقوى من العلم. ألقيت بالكتاب مستنكرا. فتلقفته الأيادي. كل شخص يقسم أنه سيصوره ويعيده إلي.. أنت أيضا ألا تريد نسخة من الكتاب؟!

Email