استراحة البيان : العشرة المبشرة ، يكتبها اليوم: محمد الخولي

ت + ت - الحجم الطبيعي

هي عشرة ابيات من قصائد متفرقة هنا وهناك عبر العصور والمواقع وعلى اختلاف الشعراء المبدعين المجددين او المنشئين تختلف الابيات من حيث القوافي وتتباين من حيث البحور والاوزان.. ولكنها تصب في وجدان العبد الفقير عند نقطة واحدة.. هي انها اصبحت تجري مجرى الدم واضحت وكأنها عضو من اعضاء الجسم وجوارح البدن مع طول العهد بها ورسوخ كلماتها عميقا عميقا في قعر ذاكرتنا. هذه الابيات العشرة كانت عدتنا وعتادنا كلما حزبنا الامر وضاقت بنا الدنيا وبات المرء (مزنوقا) في هذا الموضع او تلك الفقرة من مواضيع الانشاء ودروس التعبير حيث كان معلمونا الاوائل يحرصون على ان نتلقن دروس البلاغة ونتشرب شرف الديباجة من اصولها الاولى. كم كان حرصهم على ان نحفظ ماتيسر ـ على طول الضنى ومعاناة الضغوط ـ من ابيات الشعر العربي التقليدي, الموزون او المقفى بطبيعة الحال ثم نستعيدها عن ظهر قلب.. ولا نلبث ان نشرعها مثل سيف نشهره عند اللزوم.. كي نرصع بها سطور الموضوعات الانشائية التي كنا نروض اقلامنا على تدبيجها, وكم كان يسر اساتذتنا اذ يرون بيتا من الشعر, وخاصة من عائلة هذه الابيات العشرة المبشرة بالدوام والرسوخ على مر الزمن في وجدان الناس. اول هذه الابيات من صناعة احمد شوقي وقد اشتهر بين السامعين خاصة بعد ان شدت به ام كلثوم في قصيدة (نهج البردة) : صلاح امرك للاخلاق مرجعه فقوم النفس بالاخلاق تستقم وثمة بيت آخر للعم شوقي ايضا يقول: وانما الامم الاخلاق ما بقيت فان هم ذهبت اخلاقهم ذهبوا وها أنت ترى, اذ تنظر لمثل هذه الاشعار بعين ناقد انضجته التجربة وحنكته السنون ان كلام شوقي هو من النوع المرسل الذي (لايودي ولا يجيب) كما يقول اخوننا في مصر.. وان المسألة كلها كانت تدور حول حكاية (الاخلاق) التي كان يلبد فيها امير الشعراء المعاصرين وبعدها هات يا نظم.. والله المستعان. بيت ثالث لشوقي ايضا كنا نحرص على حشره حشرا وسط سطور الانشاء بمناسبة وبغير مناسبة وهو: وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا ولا يخفى عليك مدى حرصنا على ان يكون مثل هذا البيت (من قصيدة سلوا قلبي) هو خاتمة المطاف او لحن الختام في موضوع التعبير لعلنا نترك به انطباعا جيدا عند استاذ اللغة العربية.. وكم كنا في هذا نعبر عن انتهازية الطفولة أو نفعية التلمذة التي تطمح الى مزيد من درجات النجاح. وهناك بيت آخر كنا قد تأثرناه وحفظناه نقلا عن استاذ اللغة العربية ذاته, وهو: ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم وهو بيت متشائم كما لا يخفى على ذوقك, اذ يرى ان العاقل هو الشقي ولو في الفردوس الموعود اما الجاهل فهو المستمتع ولو في آتون السعير.. وكأن الشاعر يدعو خلق الله الى ان يفضوها سيرة ولا داعي للدرس والتزام العقل.. فالجهال والغافلون في نعيم.. والمدهش ان الاستاذ كان يردد بيته الاثير هذا في معرض هجائنا نحن تلاميذه حين كنا ننصرف الى لعب او شقاوة عن درسه اللغوي العتيد. ونعود الى شوقي ايضا وقد شغلنا وشغلناه من كثرة ما حفظنا ورددنا من ابيات شعره ونظمه وكم كنا نحرص على تهريبها في ثنايا ما نكلف بكتابته من مواضيع, حفظنا يوما قصيدة شوقي بعنوان (دمشق) (يغنيها بدوره محمد عبدالوهاب بمطلعها الجميل المعروف: سلام من صبا بردى ارق, ودمع لا يكفكف يا (دمشق) ) استاذنا ومع ذلك فقد حثنا استاذنا العربي على ان نترك باقي القصيدة ونركز على البيت الشهير القائل: وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق ولا اكتمك ـ علم الله ـ ان كان ذوق الطفولة وارهاف احساسها لا يستجيد صورة اليد المضرجة بالدماء تتساقط قطرة اثر قطرة لحظة الدق على باب الحرية قرمزية الالوان.. ومع ذلك فقد كان هذا البيت الشعري (شغال على ودنه) خلال الكتابات وخاصة في المناسبات الوطنية التي تحدد الروزنامة مواقيتها المرسومة وكنا نستعد لها سلفا.. (قبل الهنا بسنة) وفي جعبة كل منا حفنة من تلك الابيات. نفس المناسبات الوطنية: عيد الجهاد, عيد الاستقلال.. عيد الدستور.. الخ كانت تدفعنا ايضا كي نتمترس خلف قصيد أبي القاسم الشابي الذي انهكه طول الترداد في كل طروحات اليعاربة المحدثين سواء كانت شجبا أو مديحا و.. خذ عندك: اذا الشعب يوما اراد الحياة فلابد ان يستجيب القدر ولا بد لليل ان ينجلي.. الى اخره وعلى سبيل التغيير.. كنا نحاول ان نتفلسف قليلا.. وفي هذا المجال الفلسفي شديد الوعورة لم يكن ينفعنا سوى الاحالة الى صاحبنا المتنبي.. وكنا نحفظ له بيته الشهير: ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الاسباب والموت واحد وكله تحصيل حاصل كما ترى, ولكن موهبة (ابي الطيب) الداهية استطاعت ان تحوله بفضل موسيقى البنيان الشعري الى قول مرسل يجري مجرى الحكم والامثال. وبمناسبة سيف المتنبي.. لم نكن ننسى ايضا الاستشهاد المكرور بيت صاحبه ابي تمام: السيف اصدق انباء من الكتب.. ويعلم الله ان كان الطفل يكتب هذه الابيات وهو يكاد يتغنى بها بصوت شبه مسموع (حكى لنا في جلسة خاصة, الشاعر الكبير الراحل محمد مهدي الجواهري انه كان ينشىء قصائده الروائع وهو يتمشى متغنيا بالأبيات فوق سطح بيته المطل على نهر دجلة في بغداد العزيزة). في هذا السياق بالذات, ثمة بيت كنا نردده من شعر الجاهلي زهير بن ابي سلمى يقول: ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدم, ومن لا يظلم الناس, يظلم ولك ان تتأمل خطورة مثل هذا القول في عقول الناشئة الذين كان اساتذتهم يتغنون طربا بهذا النشيد الجاهلي. غير مبالين, لفرط طيبتهم او سذاجتهم, انهم يعلمون الصبية الاغرار مبدأ ان تبادر الى ظلم الناس قبل ان يظلموك, ولا حول ولا قوة الا بالله. كنا نحتفظ بهذه الابيات العنيفة للمناسبات الوطنية وما كان اكثرها, وللمآسي القومية وما كان افدحها.. اغتصاب فلسطين.. قصف دمشق.. احتلال الجزائر.. يوم الشهداء الذين سقطوا برصاص الاستعمار مأساة دنشواي.. الخ. لكن كان ثمة ابيات ظريفة, مريحة كنا نرددها مثل ببغاوات فصيحة كلما جاء شهرا مارس وابريل من كل عام.. ويومها, ورغم عواصف الخماسين في مصر المحروسة, كان اساتذتنا يعلنون مجيء فصل الربيع.. وعلينا بالطبع ان نحييه بموضوع في الانشاء بليغ.. هنالك لا نكذب خبرا.. بل نبادر الى الكتابة في نفاق بلاغي لا نحسد عليه, عن صفاء السماء (وهي مغبرة بالتراب) واعتلال الهواء (وهو لافح شبه خانق) وتفتح الزهر من أكمامه (ولم يكن في بيوتنا نبتة واحدة خضراء) ناهيك ان تسعفنا ابيات البحتري أثابه الله عنا وعن معلمينا حسن الجزاء اذ نضعها على سبيل لحن الافتتاحية (الاوفرتيرة) او لحن النهاية (الفينالة) حين يقول: اتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا من الحسن حتى كاد ان يتكلما وقد نبه النيروز في غسق الدجى اوائل ورد كن بالامس نوما يفتقها برد الندى, فكأنه يبث حديثا كان قبل ملتما ولك ان تتأمل جمال الصور التي يرسمها يراع الشاعر العباسي الفنان, الا ترى ان البحتري قد فاق الجميع؟

Email