استراحة (البيان) : أيام الأدب العربي في الجزائر، يكتبها اليوم جمال الغيطاني

ت + ت - الحجم الطبيعي

الاثنين قصر مفدي ، فوق مرتفع جبلي مطل على البحر الأبيض, ومساحات مغطاة بالأشجار يقع قصر الثقافة أو قصر الشاعر الجزائري مفدي زكريا, القصر شيد على الطراز الأندلسي, فسيح, اختير كمقر للأيام الأدبية العربية المقامة بمناسبة معرض الكتاب الدولي, وان كانت صفة الدولي هذه على سبيل المبالغة, المعرض نظمته إحدى الجمعيات الخاصة , لم تشارك فيه الدور العربية, حتى المغربية التي أعيدت كتبها من المطار, بينما اختفت كتب دار هامة جدا متخصصة في تاريخ المغرب الكبير, أعني دار الغرب الإسلامي, لصاحبها الحاج حبيب اللمسي والذي قام بدور لم تقدم مثله وزارات الثقافة العربية مجتمعة, ومما أصدره خلال الشهور الأخيرة (تاريخ الجزائر الثقافي) في تسعة مجلدات. لم تكن القاعة إلا صورة مصغرة لواقع هذا البلد العربي العريق, شديد الأهمية, الذي يشكل بكفاحه ركنا من تكويننا الروحي, والذي مر بمحنة أليمة لاتزال امتداداتها قائمة, لكن برغم الآلام والدماء لا يملك الإنسان إلا الإعجاب بحيوية الناس, وإحساسهم القوي بوطنهم وعروبتهم, وقبل هذا كله شعورهم الديني العميق بالإسلام. كنا الأدباء العرب الأوائل الذين يصلون منذ سنوات, منذ بداية الأحداث, لذلك كانت الحفاوة بالغة والمشاعر الإنسانية الثرية فياضة, تأثرت جدا بالشباب المتلهف على قراءة أعمالنا, يسمعون بأسمائنا, يعرفونها جيدا, لكن أعمالنا الأدبية وأعمال زملائنا غير متوفرة بالمرة, طوال هذه السنوات فرضت عزلة ثقافية على الجزائر, أمكن اختراقها بفضل الفضائيات العربية, وشبكة الاتصالات الدولية, وجهود بعض الجمعيات الثقافية الخاصة مثل (الجاحظية) التي أسسها الروائي طاهر وطار, وجمعية (الاختلاف) التي أسسها عدد من الشباب المثقف من الجنسين, إضافة إلى الصحف العربية مثل الخبر والوطن والصحافة, تصدر الصحف في حجم (التابلويد) وتخصص كل منها صفحة أو صفحتين للثقافة. يظل الكتاب غائبا بسبب الإجراءات غير المفهومة التي اتخذتها بعض المراكز في السلطة التي تسعى إلى عزلة الجزائر عن جذورها العربية, أيضا بسبب تقاعس الدول العربية التي لم يقم أي منها بدوره الواجب تجاه بلد عربي عظيم يمر بظروف خاصة. نعود إلى القاعة الرئيسية التي شهدت مناقشات عنيفة. الثلاثاء تهميش الثقافة ردا على حديث الدكتور عثمان سعدي, تحدث مدير دائرة الإبداع وحقوق المؤلف في اليونسكو, وهو جزائري, قال ان تنظيم هذا الملتقى يتم بمبادرة من اتحاد الكتاب الجزائريين, عندما كتب رئيسه عز الدين الروبي إلى فدريكو مايور يطالب بالاهتمام بالجزائر, وتقرر عقد هذا اللقاء منذ عامين, اللقاء لا علاقة له بأي قوى, أو أي جانب كان, تحدث الشاعر الجزائري أبو القاسم الخمار فقال ان الثقافة العربية واحدة من المحيط إلى الخليج, اللغة وعاء الثقافة, الفكر هو اللغة, قال ان الثقافة العربية في الجزائر مغيبة ومهمشة منذ الاستقلال, كان لذلك تأثيره البالغ على تهميش المثقفين, الفولكلور أصبح ثقافة, المهرجانات ثقافة, الثقافة الحقيقية أصبحت مغيبة, لم يتم الاعتراف بالثقافة كمؤسسة إلا بعد عشرين سنة من الاستقلال, عندما غاب الإبداع عن الجزائر غابت الرحمة, دافع عن شعر العامية وقال انه ذو مرجعية هامة. ارتفعت حرارة المناقشات منذ الجلسة الأولى التي رأسها الأديب الطيب الصالح, والذي قوبل بترحاب هائل, ومشاعر محبة دافقة, شملت أيضا الأدباء الذين وصلوا للمشاركة, و منهم الشاعر المغربي والمثقف البارز محمد بنيس الذي أدار الجلسة الختامية التي وصل فيها الجدل إلى ذروته, واستطاع بحنكته وخبرته بالمزاج الجزائري الوصول إلى بر السلامة. من سلطنة عمان جاء الشاعر سيف الرحبي رئيس تحرير مجلة (نزوى) الثقافية, ومن اليمن جاءت الشاعرة هدى ابلان , ومن فلسطين جاءت الشاعرة حنان عواد التي حضرت الجلسة الأولى فقط, ومن تونس الشاعرة آمال موسى, ومن ليبيا العلامة علي فهمي خشيم, ومن لندن صمويل شمعون المثقف العراقي المسيحي المقيم في إنجلترا منذ سنوات ويدير مع زوجته مشروعا ثقافيا هاما, يصدر مجلة (بانيبال) بالإنجليزية للتعريف بالأدب العربي, حضر أيضا رئيس نادي القلم الدولي الكاتب الروائي السويدي تيري كارلبوم, وهو شخص دمث, هادئ جدا, كنت أتابع ملامحه شديدة الهدوء أثناء متابعة المناقشات الحادة, ومن اليونسكو جاءت تريزا فاجنر, وهي مثقفة من بيرو, شخصية رائعة بحرصها على إنجاح اللقاء, وروحها الأمريكية اللاتينية القريبة جدا منا. حضور الأدباء الجزائريين كان كثيفا, لكنه تركز على الأدباء الذين يبدعون بالعربية, وغاب الأدباء الجزائريون الذين يكتبون بالفرنسية, وكنت أتمنى مثولهم ومشاركاتهم لتكتمل صورة الواقع الثقافي الجزائري, في القاعة سمعنا صوتا قويا من منطقة القبائل, شاعرة جميلة اسمها كريمة ريحاني, وقفت لتقول انها تتقن العربية وتكتب بها شعرا, وتتقن البربرية والفرنسية, انها بربرية, قالت انها جزائرية صميمة, ضربت صدرها براحة يدها, قالت انها لم تغادر وطنها في ذروة الأحداث رغم خطورة الوضع, ثم قالت انها ترفض أن تكون أوروبية, لكنها تطلب من أخيها وأختها العربيين أن يعترفا بلغتها البربرية وثقافتها. كان حديثها صريحا, ولم يكن حديث الدكتورة آسيا موساي أقل منه صراحة. الثلاثاء بعد الظهر الاختلاف الدكتورة آسيا في أوائل العشرينات, ترأس جمعية (الاختلاف) أسستها مع عدد من المثقفين الشباب لتأكيد قيمة الاختلاف واحترام المخالف, قالت: إذا لم تحل مشكلة اللغة في الجزائر سوف تستمر المشكلة الثقافية, قالت ان اللوبي الفرانكفوني نشيط ومنظم ويعمل, أما المدافعون عن العربية فيكتفون بالصياح وإطلاق الاتهامات, قالت: هنا بيننا الروائي الكبير الطيب الصالح, لكن رواياته لا توجد في الجزائر, كذلك روايات محفوظ ومنيف والقعيد وصنع الله ومينا وغيرهم. أخبار الأدب لا تصلنا رغم حرصنا الشديد على الحصول عليها وتصوير صفحاتها وتناقلها, الذين تخصصوا في إصدار البيانات الزاعقة لم يحتجوا على ذلك, الشباب يصر على الكتابة باللغة العربية, الكاتب الشاب من جيلنا بختي بن عودة اغتيل برصاص الإرهاب, لم يعد يمتلك في الجزائر إلا قبرا, إذا لم ننشط نحن دفاعا عن العربية فلن يقوم بذلك أحد. هذه اللافتة المعلقة في القاعة بها خطأ لغوي, اللافتة مكتوب عليها ( تحت سامي رعاية) , وصحتها (تحت الرعاية السامية) . تحدث الدكتور عماد بن زايد (أستاذ جامعي وشاعر) قال ان التواصل بين الجزائر والأقطار العربية منقطع, التواصل متوقف, توجد أزمة في حركة الكتاب, قال انه وجيله ليسوا ضد التنوع الثقافي, لكن يؤكد أن العمل الميداني المثمر هو إيجاد آليات لنشر الثقافة, التركيز على القضايا الأساسية. أما الشاعر الشاب محمد كمال فكان هجومه مركزا على اتحاد الأدباء, قال ان اسمه يجب أن يكون اتحاد الكتاب وليس الأدباء, وأن حرية الأدباء لا تواكب حرية الصحافة, ولابد من تكثيف الجهود للدفاع عن اللغة العربية, وطالب بحل الاتحاد لأنه أصبح داعية للسلطة. في اليوم التالي خرجت صحيفة جزائرية بعنوان يقول ان الأدباء الجزائريين نشروا غسيلهم أمام الضيوف. الأربعاء صباحا قاموس عربي عصر اليوم الأول تحدثت إلى الحضور عن خصوصية العلاقة بين مصر والمغرب الكبير عامة, والجزائر خاصة, ثم تحدثت عن الثقافة وأوضاعها, عن تدرجاتها, من محلية إلى قومية إلى إنسانية شاملة, وضرورة أن يكون هناك مرتكز للإنسان ينطلق منه, وبالنسبة لنا نعتبر اللغة العربية هي البؤرة, اللغة ليست قضية مجردة, لكنها وعاء الثقافة, والهوية, تحدد هوية الإنسان وحتى ملامحه النفسية والجسدية, اللغة العربية في الجزائر تتصل بالهوية, لكنها في المشرق مرتبطة بمشاكل حادة تعاني منها في السنوات الأخيرة. على المنصة, محمد بنيس (رئيسا) الروائي الجزائري بالفرنسية محمد مجاني المقيم في ألمانيا, تريزا ماجد (اليونسكو) ممثل ورئيس نادي القلم الدولي, رئيس قسم حماية حقوق المؤلف باليونسكو. ما أن طرح اقتراح دخول الكتاب الجزائريين كأعضاء إلى نادي القلم الدولي حتى تحولت القاعة إلى ما يشبه ساحة القتال, أصوات احتجاج (من يسمح لكم بذلك؟) .. (هل أخذتم رأينا) , ثم انتقل الهجوم إلى التوصيات نفسها, من أعدها, وكيف تمت صياغتها, ومن أجازها ؟ أصر عدد من الكتاب على الحديث, وبدا محمد بنيس هادئا جدا, حازما جدا جدا, أحيانا يرفع يده مطالبا بالهدوء, وأحيانا يقول بلهجته المغربية المحببة (يا خويا اهدأ الله يرحم الوالدين) . في اليوم التالي نشرت إحدى الصحف صورتي وأنا أبدوا مجهدا (بسبب الإرهاق والمرض) وتحتها تعليق يقول انني مصدوم لما جرى, والحق أنني لم أصدم قط, إنما كنت سعيدا, معجبا بحيوية هذا الشعب العظيم, شعب المليون شهيد, وكنت أفكر.. كيف نسقط العزلة, ونكسر ما يفصلنا عنه من حواجز؟

Email