استراحة البيان، بعض الناس يغيرون جلودهم، يكتبها اليوم: علي عبيد

ت + ت - الحجم الطبيعي

أطرف ما في الخبر القادم هذه المرة من السودان هو الوصف الذي اطلقه احد رسامي الكاريكاتير على الفتيات السودانيات اللاتي يقمن بعمليات تبييض لوجوههن, حيث و صفهن بأنهن(فتيات وجوه الفانتا وسيقان الكوكاكولا)وذلك تعليقا على هذه العمليات التي بدأت تنتشر بين الفتيات في غرب السودان وجنوبه حتى بدت وجوههن تظهر في لون مختلف تماما عن بقية اجزاء اجسادهن اذ تقوم كريمات التبييض بتحويل وجوههن الى اللون الاصفر الشبيه بشراب الفانتا في حين تظل سيقانهن على لونها الاسمر الشبيه بلون الكوكاكولا, وليست فتيات السودان وحدهن اللواتي يفعلن ذلك اذ ما هن سوى جزء من فتيات الالفية الثانية التي تتوارى شمسها شيئا فشيئا خلف الافق مؤذنة بنهاية عشرين قرنا من عمر البشرية وميلاد قرن جديد وألفية ثالثة لا ندري ما الله صانع بنا وبهن فيها, هؤلاء الفتيات اللاتي تتلاعب بعقولهن وتطاردهن اعلانات شركات انتاج هذه المستحضرات لتدفعهن الى سلسلة من عمليات التقشير والتبييض تنتهي بهن غالبا لدى اطباء الامراض الجلدية لانقاذ ما يمكن انقاذه مما لحق بوجوههن من حروق وقروح نتيجة هذه العمليات, ويحضرني في هذا المقام ذلك الاعلان التلفزيوني الذي تظهر فيه احدى مستخدمات هذه الكريمات تلتقي صدفة في مكان عام بصديقتها مريم التي لم تستطع التعرف عليها نظرا لما احدثه هذا الكريم من اثر كبير على وجهها الى الدرجة التي جعلتها تمر من امامها دون ان تعرفها, وهي مبالغة في اطراء هذا المستحضر ربما قلبت نتيجة فعله التي قد تكون عكسية الى الدرجة التي شوهت معالم الصديقة عوض ان تزيدها حسنا, واصدقكم القول انني لا اعرف السر في اندفاع ذوات البشرة السمراء الجميلة الى السعي نحو تفتيح الوانهن في الوقت الذي يزخر فيه تراثنا الغنائي بكم هائل من الاغاني التي تتغزل بالسمر وجمالهن ولونهن الآسر الجذاب, وفي القائمة (جميل واسمر) و(ابحث عن سمراء) و(سمراء يا حلم الطفولة) و(اسمر فتني) و(اسمر خفيف الروح) وغيرها من سلسلة التغني بذوات البشرة السمراء الفاتنة بينما لا تحضرني اغنية واحدة تتغنى بالبياض او تجبر بخاطر البيضاوات, وفي طابور الذين تغنوا بجمال السمراوات يقف اساطين الغناء بدءا من زرياب ـ وهو بالمناسبة اسمر اللون ـ ومرورا بكارم محمود وعبدالحليم حافظ ومحرم فؤاد وطلال مداح وعبدالله فضالة في حواريته المشهورة بين البيض والسمر وانتهاء بمطربي السودان انفسهم الذين تنتمي فتيات الخبر اليهم, ولم يخل الأمر ايضا من مطربات فيهن البيضاء والشقراء اقتضت منهن الامانة ان يتغنين بالجمال الاسمر الخلاب, غير ان العجيب في الامر انه في الوقت الذي تسعى فيه نساؤنا وفتياتنا ـ ومعهن بالمناسبة المطرب الامريكي مايكل جاكسون ـ الى تغيير الوانهن وتبييض وجوههن وتقشيرها نجد الغربيين نساء ورجالا يسعون الى اكساب بشرتهم اللون الاسمر او البرونزي على الاقل ملقين بأجسادهم تحت اشعة الشمس من الفجر الصادق حتى المغيب وقد غمروها بالزيوت التي تساعد على امتصاص هذه الاشعة غير عابئين بتحذيرات الاطباء مما قد تسببه لهم بعض اشعتها غير المرئية من امراض جلدية خطيرة. ولعل المتأمل في حالنا وحالهم يستغرب من احوال البشر ومزاجهم المتقلب ونفوسهم النزاعة دوما لما هو خارج دائرة أملاكها الى الدرجة التي تدفع بالبعض الى تغيير الوان جلودهم. وليت الامر يقف عند هذا الحد اذن لكانت المصيبة أهون, فأمر بعض بني البشر يتعدى هذه المظاهر الشكلية التي ربما غفرنا لأصحابها فعلتهم الى ماهو اجل من ذلك وادهى, اذ تراهم يغيّرون جلودهم انفسها حسب مقتضى الحال وتبدل الاحوال. وفي الحياة نماذج لاتعد ولا تحصى لأناس تقلبوا في مواقفهم من اقصى اليمين الى اقصى الشمال, وتغيرت معتقداتهم مرارا تبعا لما يحقق لهم مصالحهم ويبعد عنهم مظنة عدم الولاء لنظام جديد أو يلصق بهم تهمة التبعية لنظام سابق. انظر مثلا الى سيل المذكرات السياسية المنهمر في عالمنا العربي وهذا الكم الهائل من شهود العصر الذين لايتكرمون باتحافنا بشهاداتهم العظيمة وادوارهم الخطيرة في صنع الاحداث وتغيير مجرى التاريخ إلاّ إذا غيبّ الموت رئيسا أو حاكما لينتقل في نظرهم من خانة الزعامة والقيادة التاريخية الى خانة الديكتاتورية والتسلط واللعب بمقدرات الشعب والأمة والنظرة السياسية القاصرة, كأني بهم لم يكونوا في يوم من الايام ركنا من اركان تلك السلطة او شركاء فيما يحدث ولو بالسكوت عن كلمة الحق التي لم تنطق بها السنتهم الا في عهد الحاكم الحالي الذي اطلق الحريات وفتح السجون ونشر العدل وارسى قواعد الديمقراطية وانقذ البلد من الهاوية التي كان سائرا اليها, وهي شهادة لاتساوي في رأيي ثمن الحبر الذي كتبت به او الورق الذي طبعت عليه إن كانت صادرة من اشخاص لهم أدوار وأسماء معروفة خلال تلك الحقبة من التاريخ, ولكن الغريب ان تطل علينا اسماء وشهادات لاشخاص لم نسمع عنهم ولم يعرف عنهم أحد أنهم كانوا قريبين من دائرة ذلك الرئيس أو الزعيم او من مطبخ بيته على الاقل حتى يزعموا لنا أنهم شموا رائحة طبيخ الاكل الذي يأكله, ولذلك فان شهادات هؤلاء ومذكراتهم لاتستحق في نظري أن توضع في المكتبة الى جوار كتب (الشيف رمزي) و(السفرة الخليجية) و(المائدة الشهية) وسلسلة (طيب جدا) هذه الكتب الاكثر صدقا وواقعية من تلك الشهادات والمذكرات واصحابها الباحثين عن ضوء أو دور. أما المثال الاقرب للواقع والاكثر مشاهدة وحضورا في حياتنا اليومية فهو ما يحدث عندما يتغير مسؤول في دائرة من الدوائر أو وزارة من الوزارات. ومع ان الحدث عادي لايخرج عن نواميس الكون وقوانين الحياة التي هي كالنهر الجاري والقائلة انها لو دامت لغيرك ما وصلت إليك الا ان المشهد المألوف الذي يتكرر في كل حدث من هذا النوع يدعو الى العجب والتأمل, إذ ليت ان جحافل المهنئين للمسؤول الجديد من موظفي دائرته او وزارته وغير موظفيها تكتفي بالتهنئة فقط ـ وهو عمل لا تلام عليه في مجتمعاتنا الشرقية بل ربما اعتبر نوعا من الواجب واخرج من دائرة النفاق الاجتماعي اذن لكان الامر طبيعيا, ولكنّ فئة كبيرة من هؤلاء واولئك تتفنن في عرض مساوىء المسؤول الذي غربت شمسه والتعريض بأمانته غير متورعين عن وصفه بالبيروقراطية وفساد الذمة وانه المعوق الاكبر لسير العمل وتطويره الى آخر القائمة الطويلة العريضة مما لايخفى عليكم يكال له دون مكيال, ليأتي بعد ذلك دور القاء قصائد المديح وتلك الخطب العصماء التي تشيد بمناقب المسؤول الجديد مصورة إياه على أنه هبة المولى ومنحة السماء لهذه الدائرة أو تلك الوزارة, قد جاء ليحيى مواتها ويعيد الاخضرار لما ذبل من زرعها, على يديه سيرفع الظلم عن المظلومين, ويؤخذ الحق من الظالمين, ناسين انهم قد أداروا نفس الاسطوانة للمسؤول السابق عندما تسلم هذه الوظيفة, اما الأغرب من ذلك فهو أن هناك صنفا من البشر يتمتعون بقرون استشعار تجعلهم يستشفون افول نجم المسؤول وقرب موعد اقصائه عن منصبه فتراهم يبتعدون عن مجالسته أو المرور عليه قبل فترة من وقوع الكارثة, حتى اذا ما وقعت وجاء البديل كانوا بمنأى عن تهمة التبعية أو حتى مظنة حمل الود للمسؤول السابق, وربما اختلقوا معارك وهمية معه كي يثبتوا ابتعادهم عنه. وتلك لعمري آفة الناجون منها قليل وداء مستشر في نفوس البشر منذ بدء الخليقة. أما أقل فئات هذه الأصناف من الناس اصابة بالداء فهي فئة تحمل في نفوسها بقية من وفاء ندر في هذا الزمان فتظل على اتصال بالمسؤول السابق ومجاملات تهنئة في الأعياد والمناسبات تأخذ في التباعد شيئا فشيئا حتى تنقطع بعد ذلك ليصدق في هؤلاء وأولئك قول الامام علي كرم الله وجهه: صن النفس واحملها على ما يزينها تعش سالما والقول فيك جميل ولا تُرين الناس الا تحملا نبا بك دهر أو جفاك خليل ولا خير في ود امرىء متلون اذا الريح مالت مال حيث تميل فما أكثر الاخوان حين تعدهم ولكنهم في النائبات قليل وحتى لا نقترب من دائرة النيران فيظن احد اننا نقصده هو بعينه, نعود مرة اخرى الى موضوع (فتيات وجوه الفانتا وسيقان الكوكاكولا) الذي بدأنا به فنختم بما قاله عنهن نيهال مووني ـ دينج أحد رؤساء قبائل الدينكا العرقية في السودان الحبيب حيث يقول: (إذا ما سألت احداهن الى أي القبائل تنتمي فإن هؤلاء الفتيات ذوات الألوان المتنوعة لا يستطعن الاجابة.. انهن لسن سوى قطاع ضائع من سكان السودان ذوي البشرة السمراء.. ان هؤلاء الفتيات لم يعدن جزءا منا, لقد اصبحن عربا!!) . لقد أصبحن عربا؟!! سامحك الله يا أخ نيهال مووني ـ دينج حتى انت لم نسلم من سخريتك واستخفافك بنا فلم تجد ما تعبر به عن غضبك وسخطك على فتيات قبيلتك المارقات في نظرك سوى ان تتبرأ منهن وتلحقهن بنا؟! عموما لن تكون أول ولا آخر من يفعل ذلك فقد صدق فينا قول الشاعر: من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت ايلام

Email