استراحة البيان: بانوراما فلسطينية، يكتبها اليوم محفوظ عبد الرحمن

ت + ت - الحجم الطبيعي

إذا استثنينا الشاعرة العراقية الكبيرة نازك الملائكة شفاها الله, ربما كانت فدوى طوقان أكبر شاعرة عربية, حقا ان الأولى الإطار الكلاسيكي للشعر العربي, والثانية مازالت أسيرة العمود القديم, لكن هذا لا ينفي شاعرية فدوى, ومن يدري ربما رأى بعض النقاد في إلزامها لنفسها بالإطار التقليدي ما يضيف إليها . وفدوى عاشت المأساة الفلسطينية كاملة, فلقد تفتحت مداركها على الاحتلال البريطاني, ولولا وطأة هذا الاحتلال ما اهتمت بالقضايا الوطنية, فلقد كانت من العازفين عن القضايا العامة, ولكنك تستطيع أن تتجاهل ما حولك وحتى إن تجهله, إلى أن يصل الدم, إلى شارعك, فيستشهد الشاب عبد الرحيم عمرو, وكانت الشاعرة تكن له مشاعر خاصة كما ذكرت تلميحا أقرب إلى التصريح. ولقد شاهدت فيلما تسجيليا عن فدوى طوقان كتبته وأخرجته ليانه بدر, وهي أديبة فلسطينية هامة, لكنها أول مرة تقدم على حرفة الإخراج. والفيلم لابد أن نصفه بأنه فيلم طويل إذ يمتد إلى ما يقرب من ساعة, ونحن تعودنا على أن تكون الأفلام التسجيلية قصيرة, وأحيانا لا يتجاوز طولها دقائق معدودة. ولكن طول الفيلم هنا ليس غمزا مستترا أو غير مستتر. إنما هو مجرد تعريف مبدئي بهذا الفيلم الذي شاهدته في افتتاح مهرجان الإسكندرية السينمائي, ويدفعني الفيلم دفعا أن أتحدث عن المهرجان, لكنني أدفعه إلى الالتزام بالترتيب. فلقد كان فيلم (شاعرة من فلسطين) هو بداية بانوراما السينما الفلسطينية, وعرض في هذه البداية فيلم ليانة بدر كما عرض فيلم من إخراج ايزادور مسلم عنوانه (الجنة قبل موتي) . تحدثت فدوى طوقان إلينا عبر كاميرا ليانة بدر فاستعرضت البيت الذي ولدت فيه في نابلس, ومن الواضح أن البيت مهجور الآن, ولكنه يدل على ثراء قديم, وأظن أننا جميعا نعرف أن أسرة طوقان من أعرق الأسر الفلسطينية, ولها باع طويل في النشاط الرسمي والسياسي والثقافي. ومنذ اللحظة الأولى التي تحدثت فيها فدوى إلى اللحظة الأخيرة كانت صادقة, أحيانا تجنبت بعض ما توهمت أن الحديث عنه لا يليق, لكنها لم تكذب أبدا. وحرصها هذا ناتج من أنها في سن يخجل من الصراحة الكاملة, ومن أنها ابنة لأسرة كبيرة ومدينة محافظة, وربما أيضا من أنها الآن لم تعد تمثل نفسها بقدر ما تمثل المرأة الفلسطينية. بدأت الحكي عن حياتها بأنها عاشت طفولة تعسة, وأنها أحست أنها حبيسة سجن لا فكاك منه, وأن أحلامها لفترة طويلة أن تكون مغنية أو راقصة تصورا أن كلتيهما تتمتعان بالحرية. وتحكي فدوى عن قصة حبها الأول عندما كانت في الثانية عشرة من عمرها, وأحبها صبي في الرابعة عشرة, كان يتابعها في الذهاب إلى المدرسة ثم العودة منها, وذات مرة أرسل لها زهرة كانت العلاقة الوحيدة بينهما, إذ بعدها شاعت قصة الحب الساذجة, ووصلت إلى الأسرة فمنعها أخوها يوسف من الدراسة. ولم تعد أبدا إلى المدرسة, وهذا شيء يدهشني, فالشاعرة العظيمة لم تحصل من العلم إلا على بداياته, لكنها علمت نفسها بنفسها, فأصبحت نموذجا فريدا. وتتحدث بعد ذلك عن عبد الرحيم عمرو, وتلمح إلى قصة حب, ستجد تفاصيلها خارج هذا الفيلم, كما تتحدث عن قصة أخرى أكثر شهرة, قصتها مع الناقد أنور المعداوي, ولقد نشر رسائلهما المتبادلة الكاتب والناقد الكبير رجاء النقاش. ولم أعرف أنور المعداوي بالطبع في زمن معرفته بفدوى طوقان, لكنني عرفته في الستينات. كنت قد قرأت له منذ وقت مبكر, وكان منهجه في ربط الشعر بالأداء النفسي, أو ما أسماه هكذا. جديدا علينا. وكان المعداوي ناقدا كبيرا, لكنه أ يضا كان شخصية عظيمة. لم يتزوج أنور المعداوي. وكان وحيدا متوحدا, يتحمس أشد التحمس إذا رأى موهبة, وينقلب إلى الفظاظة إذا رأى نقصا في الموهبة, ويحمل سيفه إذا أحس أحدا يلمس كرامته من قريب أو بعيد. وكان أنور المعداوي يجلس في أحد مقاهي الجيزة, فكنا نذهب لنجلس إلى جواره علنا نسمع منه, وكان الكثيرون أقرب إليه مني, ولكنني أذكر أنني كنت أتشبث بهما ليعرفاني بـ (الفارس) أولهما الصديق أبو المعاطي أبو النجا كاتب القصة والرواية, والثاني عبد الجليل حسن الذي كان من كتاب الستينات البارزين, ولم يبق منه إلا ذكراه بين أصدقائه . و بالطبع سينتهي هذا, فتضيع ذكرى واحد من أهم المثقفين والكتاب. وبعد أسبوع أو شهر كنت أتقرب من المعداوي مقعدا, لكنني كنت خائفا من أن يصرخ في كما كان يفعل مع البعض. وفي تلك الفترة كتبت قصة طويلة بعنوان (أربعة فصول شتاء) وقدمتها إلى الأستاذ يحيى حقي الذي كان أستاذا وجارا وصديقا. وكان أنور المعداوي آنئذ يشارك يحيى حقي في إدارة مجلة (المجلة) التي كانت من أهم المجلات الثقافية. وأعجب المعداوي بالقصة, وأعلن في المقهى وفي غيره أنه اكتشفني , ومن تعليقات أبو المعاطي الساخرة آنئذ قوله للمعداوي: أي اكتشاف يا أستاذ أنور . لقد أوشك صاحبنا على الاعتزال. ونشر لي القصة. وربما كانت أطول قصة نشرت في مجلة (المجلة) وهو ما كان يمن به يحيى حقي على إلى آخر عمره. أعود إلى الفيلم الذي لمحت فيه فدوى طوقان للحب, وكذلك فعلت ليانة بدر عندما تعيد لنا صورة الزهرة البيضاء الأولى كأنها صارت رمزا لقصة حب. وكان من حسن حظ فدوى أنها أخت الشاعر الكبير إبراهيم طوقان الذي قاد خطواتها الأولى في عالم الشعر بعد أن اكتشف الموهبة داخلها, وتنشر الصبية الصغيرة وقائدها أحيانا باسمها وأحيانا أخرى بأسماء مستعارة, وتتجرأ وترسل قصيدة لها كتبتها عن شوقها لأبيها السجين إلى مجلة (الرسالة) . وتكون المفاجأة الكبرى بأن المجلة الرصينة تنشر القصيدة, وكان هذا معناه الاعتراف بالفتاة الصغيرة شاعرة كبيرة. الجزء الثاني من الفيلم تتحدث فدوى من بيتها الثاني, الطائر تحرر من أسره بالأدب , وأصبحت مركز الأسرة بعد أن عاشت على هامش الهامش. وقصة فدوى هي قصة فلسطينية من النكبة في 1948 إلى الهزيمة في 1967 إلى الثورة الفلسطينية إلى السلطة الفلسطينية إلى الحلم الذي لا ينتهي. ولا شك أن بطلة هذا الفيلم الجميل هي فدوى طوقان ولكن ليانة هي البطلة الأخرى خلف الكاميرا, فلقد اجتهدت كي تكون الصورة جميلة ومتناسقة لكنها راعت دائما إلا يكون هذا على حساب الموضوع. وكان الفيلم الثاني شيئا آخر. ولسبب ما جلست في الصف الأول. وهو بالطبع في السينما ليس أفضل الأماكن لمشاهدة فيلم, وأتت فتاة جميلة وجلست إلى يميني فإذا بها صحفية وسألتني دون مقدمات عن مصدر تمويل الفيلم, فلقد سرت حساسية شديدة خوفا من أن يكون أحد الأفلام الفلسطينية من تمويل أو مشاركة إسرائيلية . وكان هذا هو الحديث الرئيسي في المهرجان, وصاحبته شائعات كثيرة, ونبهت الحسناء إلى أن مقدمة الفيلم تقول انه من تمويل كندي, فسكتت على مضض, وما كاد يمر من الفيلم عشر دقائق حتى أتت ناقدة إلى يساري وسألتني ساخرة: هل هذا فيلم فلسطيني؟ وأتت من الخلف أصوات (نحنحة) معناها لا يخفى على أحد, وسمعت أحدهم يذكر هارون الرشيد, إذ رأى وأصحابه أن هناك فتاة جميلة على يميني وأخرى على يساري, ولم يعرف أحد منهما كم النكد الذي أصابني بوجودهما. والسؤال الذي ألقته السيدة الثانية: هل هذا فيلم فلسطيني؟ .. هو سؤال مهم جدا.. ما الذي يحدد هوية أي فيلم ؟ ولقد أثير هذا السؤال منذ سنوات طويلة. واستقرت المهرجانات على أن تكون جهة الإنتاج هي التي تحدد جنسية الفيلم. أي أنك لو كنت مخرجا ووجدت سيناريو لكاتب فرنسي وأحضرت ممثلين فرنسيين, ثم وفقت إلى تمويل الفيلم من الصومال, فالفيلم في هذه الحالة صومالي. وفي ظروف السينما الفلسطينية الآن من الصعب تنفيذ هذه القاعدة. أولا ليس لأن كل المهتمين من الفلسطينيين, فمن الأفلام المعروضة في البانوراما فيلم (المخدوعون) وهو من إخراج توفيق صالح, وهناك أفلام أخرى من إخراج سوريين أو لبنانيين وموضوعها الرئيسي هو فلسطين. ثانيا لأن هناك جهات كثيرة ترغب في تمويل أفلام تتحدث عن القضية الفلسطينية. وقد لا تكون هذه الجهات فلسطينية. وبالتالي فأنت لا تستطيع أن تحدد هوية الفيلم من جنسية منتجه أو مخرجه. جلست كما ذكرت بين حسناوين أشاهد فيلما أعتقد أنه ينتمي إلى سينما الهواة, وان كان فيه عمر الشريف في مشهد واحد يمثل شخصية جبران خليل جبران. ولكن عمر الشريف بكل تاريخه لم يستطع إنقاذ الفيلم, بل لم يستطع إنقاذه الجميلتان.

Email