استراحة البيان، ميادين اسماعيل باشا،يكتبها اليوم:جابر عصفور

ت + ت - الحجم الطبيعي

أطرف ما تعلمته من القراءة عن عصر اسماعيل باشا أن ميادين القاهرة الاساسية, خصوصا في منطقة وسط المدينة قد أنشئت في عهده, وأن إنشاءها كان جانبا اساسيا من تخطيط الشوارع العريضة(البوليفارات)التي نقلها اسماعيل من تخطيط هاوسمان لباريس الجديدة , واستعان على تنفيذها بمجموعة من المهندسين الايطاليين. وقد كتب عن هذه الميادين علي مبارك باشا (1823 ـ 1893) الذي اوكل اليه اسماعيل باشا مهمة الاشراف على وزارتي الاشغال والمعارف, كما لو كان يوكل لزميله القديم في البعثة مهمة تحديث مدينة القاهرة ومساعدة ابنائها على دخول أزمنة الحداثة الفكرية. وقد ذكر علي مبارك هذه الميادين بالتفصيل في كتابه الضخم (الخطط التوفيقية) الذي أراد به أن يكمل ما كتبه المقريزي في (خطط المقريزي) الشهيرة, أو يضيف الى الخطط القديمة الخطط الجديدة التي وصلت الى ذروة تسارع إيقاعها في زمن اسماعيل. وهناك مصدر آخر قريب في الاهمية من (الخطط التوفيقية) وهو كتاب امين سامي (تقويم النيل) بمجلداته المتعددة التي اصدرتها في مطبعة دار الكتب المصرية. وقد اضاف الرافعي بكتابه عن (عصر اسماعيل) الى ما كتبه المؤرخون السابقون عليه, لكنه لم يتوقف طويلا عند الجوانب المعمارية التي بدأت تجذب انتباهي, والتي اخذت أبحث عنها في كتابات المؤرخين منذ أن فتنت بعمارة قاهرة إسماعيل وتاريخها, ولم أجد بعض ما يشبعني إلا في الجهد الذي بذله أمثال الدكتور عبدالرحمن زكي الذي كتب عن (قاهرة اسماعيل العظيم) في مجلة العمارة سنة 1945. وهي السنة التي نشر فيها مصطفى فهمي في المجلة نفسها بحثه عن (الآثار المعمارية الباقية من عهد المغفور له الخديوي اسماعيل) . وقد شعرت بسعادة بالغة عندما عرفت من زميلي الصديق الدكتور عماد بدر الدين أبو غازي ان هناك كتابا متميزا عن قاهرة اسماعيل باشا, ولم ادع اليوم يمضي دون ان احصل على الكتاب الذي يضم اكثر المعلومات المتاحة الى اليوم عن مدينة القاهرة في زمن اسماعيل. اعني كتاب الدكتور محمد حسام الدين اسماعيل عن (مدينة القاهرة من ولاية محمد علي الى اسماعيل) وهو كتاب مهم لمن يريد أن يعرف تفاصيل القاهرة من حيث هي مدينة متحولة, بدأت رحلة تحديثها من زمن محمد علي إلى أن وصلت هذه الرحلة الى ذروتها في عهد اسماعيل باشا. ولكن إعجابي بالكتاب لم يمنعني من التحفظ عليه ببعض الملاحظات السلبية. وهي ملاحظات ترتبط أولا بامتداد الفترة الزمنية التي درسها, فقد كان الافضل الاقتصار على فترة واحدة وتعمقها سواء الفترة التي تبدأ من محمد علي باشا وتنتهي مع وفاة الخديوي سعيد باشا, أو الفترة الاساسية في عصر اسماعيل. وترتبط هذه الملاحظات ثانيا, بعدم التركيز على المؤثرات الاجنبية, وغياب المقارنة بين الاصل المعماري الباريسي الذي احتذاه مهندسو الخديوي اسماعيل والتجليات المعمارية القاهرية التي كانت إعادة انتاج لنموذج هاوسمان, وذلك في ظل شروط من الخصوصية التي لايمكن إغفالها. واضف الى ذلك الدور الذي قام به المعماريون الايطاليون في بناء مباني قاهرة إسماعيل. جنبا الى جنب مع اقرانهم الفرنسيين الذين تولوا عملية اعادة تخطيط الاحياء وانشاء احياء جديدة تتصل بطرق واسعة (بوليفارات) والمقارنة بين ما كتبته سنثيا نيلسون في كتابها (باريس على النيل) عن دور المعماريين الاجانب في تحقيق حلم اسماعيل بقاهرة جديدة وما نقرؤه في كتاب محمد حسام الدين اسماعيل تنتهي الى فقر الكتاب الثاني البالغ في هذا الجانب. ويتصل بهذه الملاحظة السلبية ما يكملها من عدم التوقف المتأني عند المباني الدالة على درجة التحضر المقترنة بالتحديث, مثل المتاحف والمسارح ومطابع الكتب والمجلات, ومن ثم المنشآت الصحفية, جنبا الى جنب الفنادق التي اخذت تكتسب دلالة مضافة منذ ذلك العصر. ولعل آخر الملاحظات السلبية ما يتصل بالعلاقة الوثيقة بين الحراك الاجتماعي والحراك الجغرافي. وهو الحراك الذي يوازي بين إنشاء الاحياء الجديدة وصعود طبقات أو شرائح اجتماعية جديدة, وهو حراك لايمكن فصله عن فئات الزوار الذين أخذوا يدخلون إلى حدائق الازبكية بعد تخطيطها الحديث, مقابل أجر رمزي بسيط, بالاضافة الى انطباعات هذه الفئات عن نتائج تحديث المدينة المتحولة, أعني القاهرة التي وصفتها الاعمال السردية لعصر اسماعيل وابنه توفيق. ومع ذلك كله, فكتاب محمد حسام الدين اسماعيل مفيد الى حد كبير لامثالي المهتمين بتاريخ المدن وتحولاتها, وأهم من هذا انه أشبع نهمي في معرفة الميادين التي أنشئت في زمن اسماعيل باشا وبعض أخبارها. ويذكر محمد حسام اسماعيل عشرة منها, معتمدا على خطط علي مبارك بالدرجة الأولى. وأولها ميدان باب الحديد الذي يصل شارع باب الحديد بشارع كلوت بك بشارع الفجالة, وهو الميدان الذي أصبح يحمل اسم ميدان رمسيس بعد ان انتقل اليه تمثال رمسيس من موقعه الاصلي, وحل محل تمثال (نهضة مصر) للفنان محمود مختار. وغير بعيد عن هذا الميدان ميدان الخازندار بحري جنينة الأزبكية, ولايزال يحمل اسمه. ويمكن ان نقول الأمر نفسه على ميدان العتبة الخضراء الأكثر أهمية, وكان ناحية سراي العتبة الخضراء, وقد تحول اسمه الى ميدان العتبة, بعد ان حمل لفترة اسم ميدان الملكة فريدة. وعلى بعد خطوات من هذا الميدان, ميدان التياترو غربي التياترو (دار الاوبرا التي احترقت). وقد عرف بعد ذلك بميدان ابراهيم باشا ثم عرف بميدان الاوبرا. ويقترب ميدان باب اللوق من ميدان الأزهار في القرب من ميدان التياترو. أما الأول فيقع عند تقاطع شارع البستان مع شارع عماد الدين, والثاني هو ما أطلق عليه فيما بعد اسم ميدان الفلكي بسبب وجود قصر محمود باشا الفلكي. ولا أريد ان أمضي في احصاء هذه الميادين التي تتقاطع فيها الشوارع الواسعة (البوليفارات), والتي عرفت للمرة الأولى في تاريخ المدن العربية التماثيل المخلدة للاعلام والرموز الوطنية. حسبي التوقف على أثر التغيرات السياسية على تنظيم هذه الميادين وتسميتها, فمن اللافت للانتباه ان كل تحول سياسي كان يحمل تسمية جديدة تحل محل التسمية القديمة وتنقضها, كما لو كان كل عهد يريد القضاء على أثر العهد المناقض له. والبداية هي ما يذكره الياس الايوبي في كتابه عن عهد الخديوي اسماعيل من ان تمثال ابراهيم الذي يتوسط ميدان الاوبرا الى اليوم كان موضوعا في ميدان العتبة الخضراء على عهد اسماعيل, ولكن العرابيين ازاحوه من مكانه أيام حوادث الثورة العرابية. وبعد فشل هذه الثورة, نقل التمثال الى حيث يوجد الآن في ميدان ابراهيم باشا الذي تحول الى ميدان الاوبرا في عهد ثورة يوليو 1952. ويشبه ذلك ما حدث في ميدان عابدين الذي تحول الى ميدان الجمهورية بعد ثورة يوليو 1952 ورغبتها في القضاء على تسميات أسرة محمد علي التي ظلت تحكم مصر طويلا. والواقع ان هذا الميدان يعد أهم ميادين عصر اسماعيل من حيث الدلالة التاريخية, وهي دلالة مقترنة بكونه الميدان الذي اقترنت به سراي عابدين المركز الرسمي للحكم في مصر. وكان اسماعيل عندما أمر بانشاء السراي يفكر في مقر جديد يقوم مقام المقر القديم في القلعة. وتمتد أمامه رحبة فسيحة الارجاء, مترامية الاطراف, لتنبسط أمام سراي عابدين كما تنبسط ساحة الكونكورد في باريس أمام قصر التويلري الامبراطوري. وكان اسماعيل, في الوقت نفسه, يريد ان يتخذ من سراي عابدين مركزا يتفرع من ميدانها الفسيح عدة شوارع, بعضها تم في عهده وامتد الى حي الاسماعيلية الجديد الذي سمي باسمه مثل الشارع الذي أصبح يحمل اسم شارع التحرير, ومنها ما امتد الى الازبكية واطلق عليه شارع ابراهيم باشا, وفيما بعد شارع الجمهورية, ولايزال, على هذه التسمية الى اليوم. وقد اكتملت بقية الشوارع بعد زمن اسماعيل, مثل الشارع الذي يمتد من عابدين الى جامع الشيخ صالح, والشارع الذي يمتد من قبلي سراي عابدين الى ان يلتقي بشارع محمد علي. وكانت المنطقة التي أصبح عليها ميدان عابدين تعرف ببركة الشقاف وبركة اليرقان. وقد امر اسماعيل بردم بركة اليرقان وجعلها ساحة أمام قصر عابدين الذي يقع الى الشرق منها. ويذكر علي مبارك ان هذا الميدان دخل فيه ما كان يسمى بحدرة المرادنيين ودخل معظمه في الحديقة التي كانت تتوسط الميدان.

Email