استراحة البيان: النكتة.. فن وفلسفة: يكتبها اليوم- ظاعن شاهين

ت + ت - الحجم الطبيعي

عرف الانسان منذ الخليقة الأولى سر اللغة وتفاصيلها الدقيقة, بعد أن حباه الله بتلك الأسرار والأسماء والصفات, ومعها مضى قدما في تأسيس فرحه وحزنه وتكييف حياته ومعاشه بالابتسامة والوجوم والجد واللهو والانطلاق المثير أو الانكماش الذي يؤدي الى التداعي .. ومن خلال تلك الاسرار التي أودعها الخالق في خلقه تواصل الانسان مع نفسه والآخرين, وتواصلت معه المواقف بكل ما تحمله من تفاصيل دقيقة, فكبر الحزن وكبرت الآمال وكبر الصراع واتسعت الطيبة واتسع مدى الفكر البشري لالتقاط المتناقضات التي تمليها بعض المواقف لتصبح ثقافة لأمم وشعوب.. وهكذا وجد الانسان نفسه متواصلا بالثقافات قديمها وجديدها, ومحاصرا بالعادات والتقاليد, ومؤطرا بانماط سلوكية وقيمية معينة يحاول الفكاك منها دون فائدة.. ومن هنا نشأت الحكايات والاساطير والقصص التي تصب في ترسيخ تلك القيم وتضفي عليها نوعا من القدسية حتى لا تتحرك عن إطارها المرسوم سلفا, وبعد التأطير حاول الانسان ان يجد لنفسه منفذا للخروج من هذا الحصار الخانق احيانا فلم يجد مخرجا سوى ان يضحك على نفسه بنفسه, فاخترع من اسرار اللغة سراً مثيرا للخروج على النص المكتوب والمفروض والمعد, فكانت النكتة هي ذاك الاختراع العبقري الذي نتقاذفه كلما أردنا أن نتجاوز الحدود المصطنعة.. لقد نشأت النكتة لكي تخلص الانسان من صراعه الأزلي مع نفسه والآخرين, فكانت بمثابة المحطة الوقتية لالتقاط الانفاس, وبالتالي تطهير القلب من الهموم والاحزان المكبوتة.. ومن هنا وجدت بعض الشعوب المغلوبة على أمرها في كثير من مراحل قهرها أن تتجرع دواء النكتة للتخلص من قهرها وحزنها, وتتداوى بهذه الاسرار المثيرة التي اثبتت الايام ان مفعولها كالسحر عندما يشتد الحصار.. وحتى لا أدخل كثيرا في مقدمة النكتة وفلسفتها أنتقي طرفة من هنا وأخرى من هناك, فالنكتة رغم خصوصيتها أحيانا تظل عالمية الفهم والاستيعاب لأنها ثقافة أممية قبل أن تكون محصورة ضمن دائرة محددة أو بلد محدد, وجميعنا يضحك أو يبتسم على النوادر والحكايات التي تدور حول البخل الاسكتلندي مثلا, بل نجد أن كثيرا من النوادر, التي تروى منقولة من بلد ما وتنسب الى بلد, وهكذا.. إلا أن أكثر النكت والنوادر يتم اسقاطها على البسطاء الذين يتعاملون مع الناس على سجيتهم وطيبتهم كالقرويين وأمثالهم.. * تقول الطرفة.. جلس أحد القرويين, وكانت تلك هي المرة الأولى في حياته, جلس في مطعم المدينة الكبير يتناول الغداء, وبعد أن انتهى منه وضع درهما في الصحن للجرسون فاستصغر الجرسون المبلغ, وأحب ان يلقن هذا القروي اللئيم درساً, فأخرج من جيبه درهما ووضعه في الصحن ودفعه ناحية القروي. تعجب القروي من هذه الحركة, ولكنه لم يحاول ان يفهم سببها, وإنما مد يده وتناول الدرهمين ووضعهما في جيبه, وتهيأ للخروج من المطعم. وعند الباب سمعه الجرسون يتمتم: ما أعبطني! لو كنت أعرف ان المسألة هكذا لوضعت في الصحن خمسة دراهم! * طرفة اخرى من التراث العربي عن النحاة ونوادرهم تقول: كان لبعضهم ولد نحوي يتقعر في كلامه, فمرض أبوه مرضا شديدا أشرف منه على الموت فاجتمع عليه أولاده وقالوا له: ندعو لك أخانا فقال: لا, ان جاءني قتلني, فقالوا: نحن نوصيه ألا يتكلم, فدعوه, فلما دخل عليه قال له: يا أبت قل لا اله الا الله تدخل الجنة وتنجو من النار, يا أبت والله ما أشغلني عنك الا فلان فإنه دعاني بالأمس فأهرس, وأعدس, واستبذج, وسكبج وطهبج وأفرج, ودحج, وأبصل, وأمضر, ولوزج, وافلوذج, فصاح أبوه غمضوني, فقد سبق ابن الكلب ملك الموت الى قبض روحي! * دخل الجزار ثائرا الى مكتب المحامي وسأله: ــ اذا تسلل كلب غريب الى دكاني, وسرق قطعة لحم, فهل يكون صاحبه مسؤولا عن دفع ثمن اللحم؟ المحامي: بكل تأكيد فهذا حقك. الجزار مبتهجا: اذن أرجو ان تدفع لي 30 درهما ثمن اللحمة التي سرقها كلبك من دكاني. المحامي: بكل سرور.. ولكن في هذه الحالة يتبقى عليك 20 درهما لأن قيمة الاستشارة في مكتبي هي 50 درهما! * قام المقاول بجولة مفاجئة في ساحة العمارة التي يقوم ببنائها فشاهد عاملا يقف مكتوف اليدين يتفرج على باقي العمال وهم يشتغلون, فثار المقاول وصرخ فيه قائلا: ــ أنا لا أريد شخصا كسولا مثلك عندي. وحاول العامل ان يتكلم ولكن المقاول قاطعه وأخرج محفظته من جيبه وقدم للعامل نقودا وهو يقول: لا أريد أن أسمع شيئا منك, أنت مفصول, وهذا أجرك عن الاسبوع الماضي. وأخذ العامل النقود وسار بينما توجه المقاول لرئيس العمال وروى له القصة, فقال رئيس العمال: ان الذي فعلته شيء جميل, لكني أحب ان أنبهك الى ان هذا العامل ليس من عمالنا وإنما كان قد جاء يطلب عملا! ألم أقل لكم ان النكتة فن وفلسفة!

Email