استراحة البيان : حكايات عن صور منسية: يكتبها- اليوم كامل يوسف

ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما تلتقي به, فإنك لا تحتاج إلى أن تكون خبيراً بنفوس البشر لكي تدرك أنك أمام واحد ممن يوصفون بأنهم (رجال العالم) اي ان الدنيا شرقت بهم, وغربت, وسادوا في دروبها, وعاشوا تجاربها, بحيث أصبحوا في النهاية قوماً لايستهان بهم, حتى وان كان مظهرهم لا يوحي بذلك . لهذا يتعين عليك ألاّ تدع مظهر هذا الرجل يخدعك, فهو يبدو شارداً, كأستاذ جامعي يسبح في ملكوت, وهو يتأمل جزئية صغيرة في تخصص أدبي أو فلسفي دقيق, ولكن وراء هذا المظهر الشارد بديهة حاضرة, وذاكرة حديدية, وكلمات تمتشق كسلاح ملتمع, حين تقتضي الضرورة. وهو يبادرك بابتسامة عفوية, تتفق مع ميله إلى عدم ارتداء ازياء توحي بذوق محافظ, ويلفت نظرك, على الفور أن شموساً شرقية تركت بصمتها على بشرته فمالت الى السمرة وشأن معظم من قضوا اعمارهم في ارجاء الشرق تركت سنوات هذا العمر بصمتها بقوة عليهم. والواقع ان هذا الرجل, رونالد كودري, لا يعتبر بمعايير الرحالة الذين جابوا أرجاء عالمنا العربي من جيل بعد به العهد, فقد جاء الى عالمنا العربي للمرة الاولى في عام ,1946 وهو في الثانية والعشرين من عمره, وعاش فيه 35 عاما, تجول خلالها في 15 دولة عربية, من مراكش الى عمان. ولكن مايعنينا في هذه السنوات, التي تجول خلالها بصفة اساسية في سوريا والعراق ولبنان, ليس الا السنوات من 1948 الى 1955 والتي امضاها هنا على أرض الامارات. الكثيرون من أبناء دبي يعرفون رونالد كودري, وربما البعض على صلة به حتى اليوم, ويلتقونه كلما ذهبوا الى لندن, او كلما جاء الى الامارات, على نحو ما أشار جمال خلفان بن حويرب المهيري الى حوار بينهما في دائرة السياحة في لندن, في اغسطس الماضي, حيث بدا كودري عاتباً على متحف دبي انه اخذ بعض صوره من البومه عن دبي دون ان ينسبها اليه. قد يأتي حين من الدهر يعد فيه أحد ابناء الامارات دراسة عن التحاق كودري باحدى شركات النفط الدولية, بعد تركه للخدمة في سلاح الجو الملكي البريطاني, وقد يلقي الضوء على الدور الذي قام به في هذا الاطار. ولكن ما يهمني هنا في كودري هو بالضبط السياق الذي اشار اليه جمال المهيري, وهو مجموعة الصور الهائلة التي التقطها كودري خلال سنوات وجوده اواسط القرن في المنطقة. وبينها مجموعة فريدة من الصور الملتقطة من الجو, والصور التي تعد من اولى الصور الملونة التي التقطت في المنطقة. وقد كانت خلال المغيب تمتد عند أطراف البستكية, حينما امتد اللقاء مع كودري, حول موضوع واحد للحديث, هو مجموعة صوره والكتابات المرفقة بها المقتطفة من يومياته. أما المناسبة فكانت إطلاق مجلد آخر من مجلدات مجموعته الفريدة (الألبوم العربي) , وكانت لهذا المجلد أهميته الخاصة, فهو عن دبي بكامله صوراً ونصاً, وقد أنيطت بي المهمة الصعبة, المتمثلة في ترجمة الكتاب الى العربية, ولولا عون أصدقاء كرام من أبناء الامارات, لكانت هذه المهمة في عداد المستحيل, ولكن الله ستر, وحظيت بهذا التكريم الرائع, المتمثل في ألا ينتقدني أحد, بسبب خطأ في اسم شخص, أو عائلة, أو قبيلة, أو مكان. ولما كان كودري رجلاً من النوع الصموت, فقد كانت الوسيلة الوحيدة لفتح مستودع الذكريات هي مبادرته بفيض من الاسئلة. وفي معرض الرد على هذه الاسئلة, أشار كودري الى أن مجموعة الصور التي نشرت في إطار الألبوم العربي هي جزء من حوالي مائة ألف صورة, التقطها خلال وجوده في المنطقة, ولم يقدر لمعظمها أن يرى النور, وهو يتمنى أن يحدث هذا, قبل أن يترك الزمن بصمته على السلبيات الأصلية لهذه الصور. ويمضي كودري في سرد روايات طريفة عن هوايته وعشقه للتصوير الفوتوغرافي وكيف أنه كان يقوم بعمليات التحميض بنفسه في غرفة مظلمة أقامها في داره بدبي, بما توفر له من امكانيات, في ذلك الوقت, ثم يقوم بغسل الصور الناتجة في البحر في اليوم التالي, اثناء السباحة. وعندما تطرح عليه السؤال التقليدي عن رأيه في مشهد دبي اليوم, بخط أفقها الذي يشهد جديدا متألقاً كل يوم, ومشهدها عندما جاء اليها لأول مرة, يبتسم مستعيداً ذكرى قدومه بالبحر الى دبي للمرة الأولى, ومشيراً الى أنه اضطر, مع باقي ركاب البوم الذي قدم على متنه, الى امضاء الليل تحت رحمة الرياح في الخليج, لأن خوض المياه الى المرفأ كان مخاطرة, في تلك الأيام, بسبب الجبهات الرملية, التي يمكن أن تجعل البوم يغرق وهو على بعد أمتار قلائل من مقصده. وتتذكر الى أي حد تؤثر هذه الصور في نفوس الناس, تتذكر كيف بدا صديق أثير ومقرب اليك متأثراً وهو يحدثك عن صورة أحد ابناء دبي وهو يدخن المدواخ بروح مرحة, ويقول: أتدري من هذا الرجل؟ إنه أبي! ربما هذه هي القيمة الحقيقية لصورة كودري, أي أنها نوع من الذاكرة البصرية النادرة, التي تشكل لمحات محلقة, تنداح نحو النسيان والمغيب والتلاشي, لولا هذه الصور التي أمسكت باللحظة, وتشبثت بعطر الزمان, وطاردت روح المكان. ربما لهذا, بالضبط, لم تتردد ندوة الثقافة والعلوم في تكريم كودري ومنحه جائزة سلطان العويس عام 1993 عن كتابيه الأولين, اللذين يتناولان أبوظبي ودبي, لتكون بذلك المرة الأولى التي تمنح فيها هذه الجائزة لمؤلف اجنبي. هذان الكتابان الى جانب الكتاب الثالث من سلسلة الالبوم العربي, والرابع من السلسلة ذاتها عن سلطنة عمان الشقيقة, كل هذا يشكل نوعا من التأريخ الاجتماعي المدهش, والثمين, والذي يستحق العناء الذي بذل في جمع مادته واطلاقها. واذا نحينا جانبا الرصيد الوجداني الكبير, المرتبط بهذه الاصدارات, فإن قيمتها العلمية تبقى رصيدا حافلا, جديرا بالتأمل والتدبر والبحث والتحليل واعمال النظر النقدي فيه ايضا. ومن المهم ان نلاحظ ان هذه الصور قد ارفقت بمقتطفات من يوميات كودري, وهي يوميات من الواضح انها اكثر امتدادا بكثير من هذه المقتطفات, التي اختيرت لتعكس الجانب الطريف والمسلي, بينما بقي الجانب المتعلق بالحوادث والوقائع ومحاولة رصد الظواهر وتفسيرها بعيدا عن ايدينا. وبغض النظر عن ان هذه المادة مكتوبة من وجهة نظر معينة, الا انه يخيل للمرء ان احد واجبات الجيل الحالي من ابناء الامارات يتمثل في وضع يده على كل الكتابات المنتمية الى هذا النوع على ان يترك بحثها وتصنيفها والقراءة النقدية فيها لمرحلة بحثيه لاحقة, ربما يقع عبء احتمالها على كاهل باحثي الغد, ولكن المهم الا تتسرب هذه المواد الى العدم, كالرمال من بين اصابع الباحثين. ويقول كودرى, فيما ظلال المغيب في البستكية تلف اصداء كلماته. انه يأمل في ان ترى بقية مجموعة صوره النور ذات يوم, على الاقل مجموعة الصور المتعلقة بالمنطقة وان كان ذلك لايقلل من اهمية الصور المتوافرة لديه عن سوريا, بصفة خاصة. ويشدد كودري على ان صوره التقطت في اطار تكوين منظور شخصي للمنطقة على نحو ماكانت عليه في منتصف القرن العشرين, وانه لم يحاول ان يضيف اليها على الاطلاق, سواء بالتحديث او بالعودة الى رصد مراحل اقدم تاريخيا. هذه النقطة على وجه التحديد, تفتح المجال للتأكيد على الحقيقة البسيطة وهي ان مجموعة كودرى ليست الا حلقة واحدة في سلسلة محدودة الحلقات, تشكل نوعا من الذاكرة البصرية والتاريخ الاجتماعي الحي للمنطقة, وكل حلقة منها جديرة بالمتابعة, بل المطاردة, والحصول عليها من جانب المؤسسات المعنية بمثل هذه المهام, لحفظها وتصنيفها واجراء الابحاث والدراسات عليها ونشر مايمكن منها فهي في النهاية ملك للاجيال. والحقيقة الاساسية ايضا هي ان هذه الحلقات اذا كانت موجودة اليوم, ومعروفة للجميع فقد لاتوجد غدا وقد يأتي حين من الدهر يتعين مطاردتها في الجامعات والمتاحف والمجموعات الخاصة, او قد تضيع كلية, بلا امل في امكانية استردادها. ومن خلال التأمل طويلا في مجموعة صور دبي, بصفة خاصة, اقول ان الملمح الاجمل في هذه الصور هو المتعلق بأطفال ذلك العهد, الذين تطل ملامح طفولتهم كاطلالة العيد من ثنايا الصور واليوميات. وهؤلاء انفسهم هم, بحكم مواقعهم, الذين يتعين عليهم اليوم ان يبادروا الى اتخاذ الخطوة الحكيمة المتمثلة في جمع هذه الملامح من ذاكرة المنطقة وغيرها كثير في شتى المجالات قبل ان تضيع الفرصة.

Email