الداعية الاسلامي يوسف القرضاوي في حوار عن واقع العمل الاسلامي: العمل الاجتماعي والخيري وسيلة ناجحة من وسائل الدعوة

ت + ت - الحجم الطبيعي

أكد فضيلة الداعية الدكتور يوسف القرضاوي على أن المسلمين كانوا مهتمين بالجانب العملي واخترعوا أمورا لم يعرفها اليونانيون ووضعوا المنهج الاستقرائي التجريبي وبشهادة مؤرخي العلم في الغرب مشيرا إلى أن الابتعاد عن الاجتهاد وانتاج الابتكارات والمخترعات توقف الحياة في شتى المجالات . ودعا فضيلة الدكتور القرضاوي إلى حسن معرفة روح الاسلام ومقاصد العقيدة والشريعة من الهداية والتيسير على الناس والالتزام بشروط الاجتهاد وهي أن يصدر الاجتهاد من أهله, وأن يكون في محله. ما هي في رأيك أخطر قضية تواجه الفكر الاسلامي حالياً؟ ــ هما قضيتان وليس قضية واحدة... فهناك الكيد الخارجي ثم الجمود الداخلي... وطالما أن الكيد الخارجي موجود منذ أن ظهر الاسلام فعلينا ألا نعلق مشاكلنا عليه وأن تنتبه أكثر الى الجرثومة التي تعمل في داخلنا وأقصد بها (الجمود) . اننا الآن نعاني من الجمود في الفقه وفي الفكر وفي اساليب الدعوة وفي حياتنا كلها... وعندما كان الاسلام في أوج ذروته كانت الحياة تتحرك في اطار ثوابت وتدور حول محور ثابت كما قال سيد قطب ــ رحمه الله ــ (هي حركة أشبه بحركة النهر الجار, حركة وخط مرسوم, على خلاف السيل يتحرك في اطار غير منضبط) . والامة عندما تكون في حالة الوهن والضعف يشبّهها الرسول بأنها كغثاء السيل... والامة الآن 1.3 مليار مسلم ولكنها كغثاء السيل أي ما يحمله السيل من قش وحطب وعيدان خشب وأوراق... فهي خفيفة سطحية ليس لها وزن وهي غير متجانسة وليس لها طريق معلوم. المسلمون حينما كانوا مسلمين بصدق كانت الحياة تتحرك بانضباط وفكر. فالأئمة يجتهدون... وكانوا عشرات وعشرات ولم يكونوا قلة... وكان الاجتهاد في العلوم كلها وفي الفقه والتفسير والأدب واللغة والحياة والصناعة... ومن هنا بدأت قصة حضارتنا. ان المسلمين لم ينقلوا الحضارات الاخرى ويهذبونها ويضيفون عليها كما يدعى البعض ولكنهم اخترعوا أموراً لم يعرفها اليونانيون إن اليونانيين كانوا نظريين... أما المسلمون فكانوا مهتمين بالجانب العملي... وهكذا اضافوا وطوروا باعتراف مؤرخي العلم أنفسهم مثل داريفر في كتابه (بناء الانسان) ... وجورج سارتون في كتابه (تاريخ العلم) ... وغيرهم. جميعهم قالوا إن العرب هم مخترعو المنهج الاستقرائي التجريبي ومنهم اقتبس الغربيون من أمثال روجر بيكون وفرنسيس بيكون... وعليه قامت حضارتهم الغربية. ولكنهم اضافوا عليه وتحركوا واخترعوا النجارة و الكهرباء ثم الثورات السبعة التي يتحدثون عنها الآن مثل الثورة التكنولوجية والالكترونية والبيولوجية والفضائية والمعلوماتية والاتصالية. وهكذا فقد أخذ منا المنهج يوم كنا نجتهد ونتحرك ثم جمدت الحياة وجمد كل شيء. فبعد الاجتهاد في الفقه اصبح التقليد هو الطابع العام المسيطر... وحتى الأدب جمد فبعد ان كان الادب مسترسلاً رائعاً على نحو ما رأينا في كتابات الجاحظ وأمثاله اصبح السائد هو أدب المحسنات البديعية اللفظية. وتوقف العلم عن انتاج الابتكارات والاضافات التي توصل اليها المسلمون في شتى المجالات... وتوقفت الصناعات وجمدت الحياة. ومن هنا كان الجمود هو شر ما أصاب الحياة الاسلامية... لأن الغرب تطور وأضاف واتسعت الفجوة بيننا وبينه ومارس علينا ضغوطاً وشنّ علينا حروباً أصبح هو المنتصر فيها دائماً وصرنا في واقع مأساوي لا ندري ماذا نفعل فيه. الصحوة الاسلامية التي انتشرت في بلادنا منذ عدة عقود... ألم يكن لها دور في تحريك هذا الواقع والعمل على الخروج من هذا الجمود؟ ــ الصحوة حاولت... ولكن الواقع لم يمكنها هذا من ناحية... ومن ناحية اخرى فإن الصحوة بدلاً من ان تحقق التطور استسلمت هي للجمود... فغلب الجمود على عقول كثير من قادتها ومفكريها وفقهائها فجمدوا الفكر وأساليب الدعوة وجمدوا الفقه ايضاً... وغلب هذا الجمود على الحركة المنضبطة التي أنشأتها الصحوة الاسلامية. والحركة المنضبطة هي التيار الوسطي الذي قال عنه الامام علي كرم الله وجهه (عليكم بالنمط الاوسط الذي يلحق به التالي ويرجع إليه الغالي) . لكن كما قلت هناك من أصل للجمود داخل الصحوة الاسلامية... فبدلاً من أن يجعل الدعوة هي الغاية بما تعنيه من التنظيمات والوسائل والآليات جعل الوسائل غايات واصبحت وكأنها اوثان تعبد رغم أنها ليست من الثوابت بل اشكال من العمل قابلة للتغيير والتجديد... ونحن في حاجة لتغيير الوسائل باستمرار... فالاهداف ثابتة لكن الوسائل متجددة ومتطورة وغير ثابتة. الساحة الفكرية الاسلامية اصبحت غير منضبطة بالنسبة لمصطلحات هامة وخطيرة في الفقه الاسلامي مثل الثبات والتطور والمرونة... فما هي الضوابط التي تحكم الفقيه والمجدد في هذا الشأن وخاصة في عصرنا الحديث؟ ــ لدينا في الفقه الاسلامي منطقتان.... المنطقة الاولى مغلقة ولا يدخلها تطور ولا اجتهاد ونسميها المنطقة القطعية... والمنطقة الثانية هي المنطقة المفتوحة التي تكون فيها الاجتهاد والتطور. والمنطقة القطعية هي تلك المنطقة من الفقه الاسلامي التي تقوم على أساس نصوص قطعية الثبوت وقطعية الدلالة... وهذه المنطقة تمثل ثوابت هذه الامة ولولاها ما كان عندنا أمة واحدة... وهي التي نسميها (المعلوم من الدين بالضرورة) وهي تجسد وحدة الامة العقيدية والفكرية والتشريعية والشعورية والسلوكية... وهذه المنطقة المغلقة محدودة جداً من حيث الكم لكنها مهمة جداً لأنها تحفظ الامة من التمزق والانهيار. أما المنطقة المفتوحة فهي منطقة الظنيات... ومعظم احكام الشرع تدخل في هذه المنطقة.. ومعظم مصادر الاحكام ظنية وهذا يعطينا مرونة في الاجتهاد مقدراً من امكانية الاختلاف... لكن الاجتهاد والنشاط العقلي في هذه المنطقة يتم بضوابط وشرع الله ليس مباحاً لكل من لا يفرق بين الفاعل والمفعول ولا بين التمييز والحال... فكل شيء منضبط بقواعد. انني رأيت بعض العلماء يقول ان الاسلام لا يتجدد... وهذا خلاف للحديث النبوي الصحيح (ان الله يبعث لهذه الامة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) . وهذا تصريح من الرسول بأن الدين يتجدد... والمجدد لا يشترط ان يكون فرداً واحداً كل مائة سنة بل يجوز ان يكون عدد من الافراد احدهم في الفقه والثاني في الأدب والثالث في التفسير والرابع في العلم والتكنولوجيا والخامس في القيادة السياسية ــ الخ. كنا أن المجدد يمكن ان يكون حركة تقوم بتجديد الفكر وتجديد الحياة وتجديد النفوس وتجديد فهم الاسلام والعمل للاسلام والدعوة للاسلام. ان الانسان يتغير تفكيره من سنة الى سنة... واصحاب ابي حنيفة خالفوه في اكثر من ثلث المذهب... وقالوا ان هذا خلاف عصر وزمان وليس خلاف حجة وبرهان... فالعصر هو الذي اختلف ولو كان ابو حنيفة موجوداً لغيّر رأيه. وكذلك فعل الامام الشافعي عندما ذهب الى مصر فجاء بالمذهب الجديد خلافاً للمذهب القديم في العراق. انني مثلاً من المعجبين بابن تيمية وتلميذه ابن القيم ولكن خالفتهما في كثير من المسائل... وخلافي معهما ليس إلا اتباع لمنهجهما. فقد خالفتهما في الجزئيات وتابعتهما في المنهج الذي هو الاستقاء من الاصول وليس التقليد... فإذا قلدتهما اصبحت تيمياً... مثل كون كثير من الفقهاء إما حنفياً أو مالكياً. ان عصر صور الاسلام كان افضل العصور من ناحية فهم الاسلام وحسن معرفة روح الاسلام ومقاصد العقيدة والشريعة من الهداية والتيسير على الناس... ثم بدأ النزول شيئاً فشيئاً عن المقاصد الى الحرفيات... وهكذا بدأ يضيف كل عصر الى سابقه ما تسميه بالاحوطيات. حتى صار الدين مجموعة من الاحوطيات... منها تشديد على خلق الله وكأنها اغلال. ان كل دين ينقص عما قبله ما لم يتجدد... ونحن نريد ان نعود بالدين الى هذه السعة والمرونة والتيسير وأن ننبذ هذا الجمود في تفكيرنا... وقد كان السلف يقولون (من كان يومه مثل أمسه فهو مغبون, ومن كان يومه شراً من أمسه فهو ملعون) ... والمغبون لا يكسب شيئاً... إنما الخاسر هو الملعون. أشرتم الى المعلوم من الدين بالضرورة... وهو تلك المنطقة الثابتة القطعية التي لا يجوز فيها الاجتهاد... وهي التي تجسد وحدة الامة وتمنع تمزقها وإنهيارها لكننا نرى في واقعنا المعاصر علماء دين ليسوا في مستوى الاجتهاد يتم توظيفهم لخدمة هذه الثوابت... فكيف يمكننا ايقاف ذلك العدوان والحفاظ على ثوابت الامة التي هي طوق النجاة لنا جميعاً؟ ــ إنني ما من مرة صليت وراء خطيب جمعة في مصر إلا وخرجت منكداً مغموماً... وعلى سبيل المثال وجدت استاذاً للتفسير في الازهر يقول ان الاولياء وآل البيت هم الذين حموا القاهرة ومنعوا اليهود من دخولها عام 1967. وقد سألت عالماً كبيراً وقلت له: هل حقاً كان لآل البيت دور في حماية القاهرة عام 1967... فقال نعم... رأيت في المنام سيدنا الحسين رضى الله عنه وهو يمسك ببارودة ويوجهها نحوهم... ورأيت السيد البدوي وهو يمسك ببندقية... فإذا كان علماؤنا يقولون ذلك... ويقوّمون الثقافة الفاسدة المسمومة للناس... فما بالك بعوام المسلمين؟... ان القضية اننا لا يوجد لدينا وعي اسلامي يفرق بين العالم المجتهد المجدد... ومدعي العلم... وهكذا حدث خلط في الاوراق وانعدام وعي الناس بالقضايا الاساسية... وهكذا مكّن البعض من ان يخرج على الامة بآراء يخالف فيها اجماع اكابر العلماء والمجامع الفقهية. واستخدام العلماء لخرق المعلوم من الدين بالضرورة تحقيقاً لمكاسب محدودة وضيقة خطر يهددنا جميعاً وينبغي عدم العبث به وعدم السماح لأي أحد بهذا العبث. اذا كان الواقع هو التشويش على علماء الامة الثقات عن طريق من لا يمتلكون آلة الاجتهاد ولم يحظون بثقة الأمة... فإن الناس في حيرة ولا يعلمون ما هي الضوابط والمعايير التي من خلالها يعرفون من هو المجتهد التي اذا اجتهد وأخطأ فله أجر ثم يفرقون بينه وبين غير المجتهد؟ ــ هناك شرطان اساسيان في الاجتهاد... الشرط الاول ان يصدر الاجتهاد من اهله... والشرط الثاني ان يكو ن الاجتهاد في محله. وبالنسبة للشرط الاول فإن الاصوليين ذكروا شروطاً للاجتهاد والمجتهد بعضها متفق عليه وبعضها مختلف فيه... ومن الشروط المتفق عليها العلم بالقرآن والعلم بالسنة والعلم باللغة العربية... فمن يجهل اللغة والنحو والصرف كيف يجتهد؟ وكذلك كيف يجتهد من لا يعرف اصول الفقه ليميز بين الخاص والعام والمطلق والمقيد والمنطوق من المفهوم... وأما بالنسبة للشرط الثاني وهو أن يكون محل الاجتهاد متوفراً... أي ان يكون الاجتهاد في أمر ظني فلو اجتهد في أمر فرغت منه الامة ومقطوعاً به الحكم فهذا دليل على الجهل والخطأ. وهناك أمر خطير وهو أن البعض يريد ان يحول الظنيات الى قطعيات فيمنعوا الاجتهاد فيها... كما أن هناك من يريد أن يحول القطعيات الى ظنيات... وكلا الامرين خطأ فادح غير مقبول. وكما قلت فإن حالة الوعي في الامة هي التي تساعدها أن تفرق بين العالم الثقة والعالم المزيف... وبين المجتهد وطالب العلم. فكلما زاد الوعي في الامة أمكن بسهولة التفريق بين النموذجين. اما في عصر التشويش والثقافة المسمومة والاعلام غير الصادق فلا يمكن التمييز بين النموذجين إلا بصعوبة بالغة. معظم فصائل الصحوة الاسلامية ركزت على العمل السياسي الذي يتميز بالمشكلات والتوتر... وتركت الجانب الاصلاحي والتربوي والدعوى الذي تحتاجه امتنا الآن بعدما اصبحت لا تعرف شيئاً عن الاسلام... ما رأيكم في هذه القضية؟ ــ العمل الاسلامي متعدد الجوانب ولا يمكن جمع العاملين في مجال الاسلام في جبهة واحدة... فالناس يختلفون وهذه السنّة... ومن هذا الاختلاف يختلفون في مجال العمل فمنهم من يهتم بإصلاح العقيدة فيحارب الشركيات والبدعيات والخرافات ويريد جمع الناس على التوحيد... ومنهم من يعمل في مجال اصلاح العبادات وتنقيتها واقامة مساجد تقام فيها الصلاة الصحيحة... ومنهم من يهتم بإنشاء البنوك الاسلامية ومحاربة الربا... ومنهم من يهتم بالجانب التربوي وانشاء المدارس الاسلامية... ومنهم من يهتم بالجانب الثقافي ومحاربة الشبهات التي تشوش على الفكر الاسلامي... وهناك من هو مهتم بالجانب السياسي... والمجال يتسع لهذا كله... وليس من الضروري أن تتركز جهود الجميع في مجال واحد فقط دون باقي المجالات والاسلام دين شامل. واذا كانت الحركة الاسلامية انهمكت في الجانب السياسي اكثر من الجوانب الاخرى فيجب ان نعيد الامر الى حالة التوازن فيجب ان نعطي الجانب الاجتماعي حقه ويجب ان نتعلم من المنصرمين في ذلك... والعمل الاجتماعي والخيري وسيلة من وسائل الدعوة... فحينما يراك الناس وانت تسهر على خدمتهم سيقولون انك تستحق القيادة. هل فشلت الصحوة الاسلامية أن تصبح حركة شعبية تتبنى هموم الامة وتلتف حولها الامة؟ ــ لا استطيع ان اوافق على هذه المقولة... والصحيح أن الحركة الاسلامية يحال بينها وبين الناس بمختلف الطرق والوسائل وأولها تزوير الانتخابات. وعلى الحركة الاسلامية أن تكسر هذا الواقع المفروض عليها والذي يمنعها من الوصول للناس وعليها ان تبتكر من الوسائل والآليات ما يمكنها من ذلك. ونحن والحمد الله لدينا عقول مبتكرة تستطيع ابتكار هذه الوسائل والآليات. اننا لا نريد عملاً انقلابياً ولا ندعو لاستخدام العنف... بل نريد فقط أن نعلم الناس الاسلام وأن تساهم في خدمة امتنا وأن نعد رجالاً ليحرسوا هذه الاوطان ويجب أن نبذل جهداً في ذلك. كثير من فقهاء الجماعات والتنظيمات الاسلامية يقولون إن الجماعة فريضة وأن على كل مسلم أن يبايع الجماعة وإمامها ولا يشق عصا الطاعة... نريد منكم توضيح الخطأ والصواب في ذلك؟ ــ هذه الجماعات والتنظيمات الموجودة هي تكوينات تخدم الاسلام وتجتهد في حقوق الاسلام مهتدية بأحكام الشريعة وقواعدها... ولا يجوز لأية جماعة أن تدعى العصمة في اجتهاداتها فقد يكون اجتهادها مصيباً وقد يكون خطأ. والانسان المسلم ليس من الواجب عليه ان ينخرط في عمل جماعي... وبالتالي فالجماعة هو وسيلة لخدمة الاسلام ونظرة المسلمين وبالتالي فهي ليست فريضة. ثم ان هناك خلط بين الجماعة بمعنى الفئة التي تعمل لخدمة الاسلام والتي شاع استخدامها الآن لما نراه من كثرة الجماعات... وبين الجماعة التي جاءت في الاحاديث مثل حديث (من فارق الجماعة شبراً فمات فقد مات ميتة جاهلية) ... فهذه الجماعة ليست تلك وانما هي جماعة المسلمين كلهم... وطاعة الامير اي ولي الامر واجبة حتى لا يشذ من يشذ وتخرج فئات عن مجموع الامة وتحصل الانشقاقات التي ضيعت المسلمين. وكذلك يمكن فهم البيعة التي هي لولى أمر المسلمين عامة وليست لأمير جماعة صغيرة من الجماعات المنتشرة الآن على الساحة. حوار: السيد أبو داود

Email