في حوار مع الباحث باسم حمودي عن السيرة الهلالية: ما زالت تغري الكثيرين وهي بحث لم يهدأ

ت + ت - الحجم الطبيعي

تبدو عملية دراسة السرديات الكلاسيكية العربية من مقامة إلى خبر إلى خرافة إلى سيرة شعبية إلى أساطير, عملية ضرورية لفهم ذلك التواصل التاريخي المتطور بين بنية أداء قديمة إلى البنى الفنية الحديثة التي تطورت في أنماط القص والرواية , إذا كان القص (الرواية) هو تشكيل المتن الحكائي واظهاره بصورته (النهائية) أمام السامع ــ القارئ, فإن السرديات العربية والكلاسيكية قد اعتمدت الرواية الشفاهية بالدرجة الأولى ثم تبع ذلك التدوي. ومن باحثي السرديات الكلاسيكية والسير السردية الناقد والباحث باسم عبدالحميد حمودي الذي رأس لفترة غير قصيرة مجلة التراث الشعبي في الثمانينات والتي عنيت بدراسة الموروث الشعبي من فولكلور وحكايات ومخطوطات وما يتعلق بها من دراسات وبحوث. ولعل من البحوث المهمة التي قدمها في هذا المجال بحثه (مقتل ملك العراق عامر الخفاجي في روايات السيرة الهلالية), باحثا ومحققا.. قال لنا عن نماذجه في هذا المبحث: ان النماذج (المدونة) التي قدمتها في هذا البحث من السيرة الهلالية اعتمدت على جزء من مستوى البراءة الأولى, مستوى سردية محكية, مروية, قمت بنقل نموذج منها من مسجله الصوتي لراو ما زال يؤديها حتى اليوم. واخترت نماذج سردية أخرى مدونة عن المؤدين لعبت بها أصوات الرواة وأقلام الوراقين وكلها محصورة ضمن موقف واحد هو مقتل الملك عامر الخفاجي. ‍ ذكرت ان السيرة الشعبية العربية تنشق.. فماذا عنيت بذلك؟ ــ تتناسل من جسد السيرة الشعبية العربية مرويات أخرى يسردها الراوي لتعينه في التغريب والجذب والشد, ومثلما يعلن شتراوس كتيبه (الاسطوره والمعنى) في الفصل المعنون بـ (ذو الشفاه الأرنبية) بأن الاسطورة تنشق حيث يعتبر الاسطورة قصة ــ وهو يتحدث في الفصل الثاني عن التفكير البدائي والعقل المتحضر, فان متن السيرة الشعبية يتشقق ايضا بين اركان متعددة من البلدان العربية وبين الرواة ايضا. صحيح ان شتراوس هنا يتحدث عن انتقال الاسطورة من امريكا الجنوبية الى امريكا الشمالية حول الشمس والقمر, لكنه يعمم التجربة ويرى ان الاسطورة كموتيفات وجسم عام تنبني في كل ارض بالشكل الذي يروق للسارد وفق مستوى تفكيره وخبراته, وهو امر انبنت عليه تجارب السرد المختلفة لكتاب الف ليلة وليلة الذي يمكن مراجعة مقدمة كتاب د. محسن مهدي حوله لاثبات مجموعة الروايات المختلفة والمنشقة عن المتن الاصلي والمساوقة له والمضيفة اليه. ‍ التحقيق في حقيقة الوقائع ومقارنتها بالنص المسرود الى ماذا تفضي؟ ــ اننا نضع هذه (الحقائق) لاثبات ان الراوي مثلا في السيرة الهلالية الكبرى ــ وهي خطاب روائي متكامل ــ لم يكن واحدا ايضا, وان العديد من الرواة قد تدخلوا في أماكن عديدة لاعطاء السيرة بعامة (وشخوصها) صفات واعمال وتوجهات تتعلق بمنطلقات الرواة انفسهم, وقبل ان نشرع بذلك آخذين شخصية الخفاجي عامر العراقي كنموذج للتغيير عند الرواة مثلاً, بمعنى اننا ينبغي أن نوضح الأسس التي انبنت عليها هذه السيرة. ‍ عودة الى السيرة الهلالية .. باعتبارك قمت بالتحقيق فيها وعنها, متى بدأت برأيك هذه السيرة .. تاريخيا, واين موطنها أو مواطنها الحقيقية؟ ــ لا أستطيع بداية أن أبت تاريخيا بعلاقة السيرة الهلالية بجهد مماليك مصر في القرون الوسطى للحفاظ على طريق الذهب ولكني أورد اشارة احسان سركيس وكتابه (الثنائية في ألف ليلة وليلة) حيث يقول ان هناك نزاعات مبهمة كانت تتم بين القاهرة والدول التي تقوم في المغرب ــ ومثال ذلك الحملة التي أرسلها الفاطميون والتي تكلفت بها قبائل بنو هلال وسليم ــ تفسر بأغلبيتها ما أمكن ذلك .. أي أنه يحدد طريق الذهب بالقول استنادا الى الادريسي والبكري, وهو طريق تجاري يتعلق بالذهب المقبل من السودان, اي من وادي نهر النيجر, وهذا الطريق الذي ظلت بلدان المغرب تراقبه طوال ستة قرون, كان هذا الطريق يمر من خلال الصحراء الشرقية حتى منتصف القرن الحادي عشر ثم اهمل بسبب العواصف الرملية وبسبب الاعتداءات المستمرة التي ما كانت القوافل ضحيتها, والواقع ان هذا الطريق لا يتخذ المسار الجغرافي الذي عاشته السيرة الهلالية ووصفه الرواة عبرها, وذلك لان هذا الطريق يمتد من جنوب مصر ولا يتصل بالمغرب ايضا الا من جهة الجنوب وعبر الصحراء الافريقية في وقت انتقلت فيه قبائل بنو هلال من نجد الى العراق الى سوريا وفلسطين الى مصر, مساره ــ حسب روايات الرواة المختلفة ــ ببلدان أخرى مثل ايران وتركيا وقبرص ولكن اشارة سركيس تكشف عن دوافع سياسية لنا ان نتوقف عندها قليلاً لا لبحثها الآن بل للتعايش معها كوثيقة. ‍ ما هي هذه الدوافع السياسية؟ ــ ان هذا الافتراض حول دوافع غزو بني هلال لبلاد المغرب يقابله افتراض آخر يورده شوقي عبد الحكيم من كتابه (الزير سالم) يتعلق بموطن أحداث القسم الأول من السيرة الكبرى وهي احداث قصة المهلهل ــ الزير سالم ــ حيث يطرح الباحث سؤالا محددا. ــ هل نحن بازاء سيرة واحدة أم سيرتين احداها للمهلهل يرجح انها الفصحى, تجري احداثها بين عرب الشمال الجاهليين والثانية فولكلورية للبطل البئر سبعي ــ الفلسطيني المنتقم لمصرع أخيه الملك كليب تجري أحداثها ما بين الشام ولبنان وفلسطين؟ بل انه يذهب ابعد من ذلك في تطبيقاته المتحفظة ليقول لنا لعلنا ازاء ملحمة فلسطينية موغلة في القدم بطلها الزير سالم ــ أو مدينة سالم, كما انه نبت وتربى في وادي بير سبع أو بئر سبع قبل تواجدها التاريخي ــ الفلسطيني واتخذها موطنا ومنفى وهو يطبق قراءته هذه للجزء الأول من السيرة على هذا الأساس. ــ ان باحثين متعددين يعتمدون على الطبعة الحجرية الاولى التي وردت بلا نازع فيما يعتمد آخرون على طبعه صبيح لتحقيق الصورة الشعرية والاجتماعية والميثولوجية للسيرة ومن هؤلاء د. الشحاذ ود. عبد الرحمن ايوب وشوقي عبد الحكيم وخورشيد ود. فائق مخلص فيها اعتمدت د. اليسون لريك على الرواية الشفهية المتعددة. ‍ اذن نستطيع القول بأنكم تقومون بتحليل للرواية المحلية ومقارنتها بالمكتوبة؟ ــ نحن نقوم بعملية غير مألوفة في تحليل البنية السردية لاثر سردي عربي, ذلك اننا نقوم بتصنيع الصورة السردية وذلك بايراد جزء منها ورد في نص شفهي اولي, بريء غير مهذب وفي ثلاثة نصوص شفهية مدونة معتمدين في كل الاحوال على القول بأن الجميع رواة لنفس المتن السردي الذي ما زال متنا قابلا للتغيير والتشكيل عند الرواة الآخرين معتبرين ان الراوي هنا هو نائب النص, نائب المتن السردي, يأخذ منه ويعطيه ويضيف اليه حسب مستوى (قراءته) له ووعيه بهذا المتن السردي وهدفه من أجله. الكلام هنا منطوق مروي, ومنطوق ـ مدون ــ مروي وتشكيلات الرواية عنه لا تتخذ طريقة واحدة بل متعددة, ان ذلك لا يشمل كذلك حالة المتلقي النفسية ساعة التلقي وحالة الراوي النفسية عند الاداء ولا يشمل أيضا لهجة الأداء, ذلك اننا أمام نصوص رويت أو دونت باللهجات المصرية ـ النجدية ـ العامية المفصحة. ان الابطال في كل متون السيرة القولية والمدونة محاصرون بالراوي, خاضعون لتأثيراته فهو الذي يقزمهم (راوية نجد) أو يعملقهم (راويه جابر وراويه صبيح) أمام السامع ــ القارئ, وهو يمارس ذات التأثير الذي يمارسه المؤلف المدون ولكن الراوي الشفهي (راويه جابر) يستعين في لحظات الكلام ـ الاداء بمؤشرات تعبيرية أخرى غير اللسان الناطق وطبقات الأداء منها الموسيقى والتوقفات المنتمية إلى الأداء التمثيلي المطلوب, والراوي هنا لا يستقل بالعمل الأدبي (المخلوق) كنص مسرود عن السامع ـ المتلقي ـ القارئ. ‍ وهذا بالتأكيد يعطينا تنوعا لنص واحد, بمعنى ان النصوص القديمة تحتمل التنويع طالما انها اختلفت رواية؟ ــ نعم هذا صحيح. فسطوة المتن السردي القديم لا تحكمها حالة واحدة, فلكل متن تأثيره وفق مستوى الأداء القوي والمدون وحالة المتلقي ولكن يظل (قبول) المتلقي للمتن السردي وعمق تأثيره عليه امرا قابلا للنقاش, فهو نظريا لابد أن يتصالح معه, ان يألفه, ان يريده ويرغبه ويتقبله, ولكن النص القولي المنبعث من كاسيت السيارة قد لا يكون كذلك بالنسبة للمتلقي الذي لا يريده آنيا, كما ان النص القولي المؤدى ساعة وجود المتلقي يختلف تأثيره من متلق لآخر.. فهناك حافظ للمتن مسبقا, وهناك من يسمعه لأول مرة وهناك من هو قريب من المؤدي مكانا وهناك من هو بعيد عنه وعن ميكروفونه. كل ذلك يدفعنا للقول ان المتن السردي الشعبي القديم ما زال متنا قابلا للمزيد من الدرس والبحث ولانتاج الكلام النقدي المصاحب له والمعتمد عليه وأن مشكلة تدوين المتن السردي الحكائي العربي القديم لا تزال مشكلة كبيرة فما زالت اللهجة وصورة أداء الراوي للمتن السردي وطرق التدوين غير الثابتة تحكم حركتنا نحوه, ولكنها أيضا تثري لغتنا النقدية حوله. وأخيرا نقول ان البحث في جغرافيا وتاريخ وانساب ورواة السيرة الهلالية ووقائعها وحقيقة هذه الوقائع, قد شغل المخرجين وصناع السينما والتلفزيون وليس فقط النقاد والبحاثة.. وهو بحث لم يهدأ حتى الآن, وما زال يغري الكثيرين بالغوص طلبا وراء لؤلؤه. بغداد ــ لهيب عبدالخالق

Email