استراحة (البيان) ولله في خلقه شؤون! يكتبها اليوم- مصطفى كمال

ت + ت - الحجم الطبيعي

الخبر صغير لا يتجاوز بضعة أسطر. ومع ذلك فهو عظيم الدلالة. لا لأنه يقدم لنا شيئا خطيرا جديدا. وإنما لأنه يؤكد مرة أخرى أننا ــ معشر بني آدم على اختلاف أجناسنا وألواننا, ونحن على أبواب القرن الحادي والعشرين , ونزعم أننا أوتينا من العلم ما يؤهلنا لغزو المجرات واستنساخ الخلق, ما زلنا نحبو على عتبات المعرفة, وما زال ينقصنا الكثير, والكثير جدا حتى يحق لنا ان نفخر بأننا خلفاء لخالقنا في الأرض. والحكاية وما فيها بدأت منذ أكثر من عشر سنوات, وبالتحديد في الشهور الأخيرة من عام 1988, عندما قررت منظمة اليونسكو ان يكون العقد الذي يبدأ في أول يناير 1989 وينتهي في آخر ديسمبر من عام 1998 (عقداً رسمياً لفهم المخ البشري) . ومنذ ذلك الحين عقدت أكثر من عشرين ندوة. وخصصت أكثر جامعات العالم لجانا علمية على أعلى مستوى, مهمتها دراسة مخ الانسان وتحليله اكلينيكيا ونفسيا, من أجل التوصل إلى نظرية شاملة ودقيقة تفسر كيف يعمل هذا الجهاز العجيب الذي لا يزيد وزنه على 1.5 كيلوجرام.. كيف يتلقى الاشارات من الحواس الخمس, أو ربما أيضا من حاسة سادسة لا نكاد نعرف شيئا عنها بعد, ثم كيف يدخلها على الفور في (معمل تشغيل) , فاذا بالتعليمات تصل إلى كل أعضاء الجسم لتتصرف على ضوء الاشارة الواردة.. إلى خلايا الدم والعضلات والأطراف وحتى شعر الرأس وخلجات العين فإذا كلها تستجيب للتعليمات, فيغضب الانسان أو يضحك, ويحمر وجهه أو يصفر, وتبرق عيناه أو ترتخيان, وترتعش يداه وساقاه أو تتصلبان.. وتستنفر عضلاته أو يولي الأدبار.. وكل ذلك في أقل من واحد على كذا تريليون من الثانية.. وهي الحد الأقصى للسرعة الذي توصل إليه عالمنا الجليل الدكتور أحمد زويل, ولم نعلم به إلا منذ أسابيع. كيف تجري هذه العملية في هذه اللحظة.. أو اللحيظة الخاطفة, ومعها في نفس التو عشرات بل مئات العمليات الأخرى دون ان يحدث صدام أو تناقض, وانما تجري كل عملية في مسارها وسبحان من سيرها.. تماما كما تجري بلايين بلايين النجوم في أفلاكها دون ارتطام. بعض العلماء في بريطانيا وأمريكا والسويد افترضوا ان هذه عمليات كيماوية ولكن أحدا منهم أو من غيرهم لم يستطع التوصل إلى كيفية تفاعل المواد التي تشكل هذه العملية, بل لم يتوصلوا حتى إلى كل العناصر التي تشارك في هذا التفاعل. وانتهت السنوات العشر أو تكاد, ولم يحصل العلماء الجهابذة على الاجابات التي يريدونها. ومنذ أيام وقفت العالمة البريطانية سوزان جرينفيل لتعلن محصلة الدراسات التي شهدتها السنوات العشر الماضية فتقول ان ما أمكن جمعه من معلومات مؤكدة لا يعد ان يكون قطرة في بحر. واننا نحتاج على الأقل مائة سنة أخرى لكي نتعرف على خفايا هذا الجهاز البشري المعجزة. ومع ذلك فإن ما توصل إليه العلماء في الشرق والغرب ليس قليلا.. وقد عدلت البحوث المكثفة من بعض المعلومات السابقة.. ومن يدري, ربما تؤدي الدراسات في المستقبل إلى تعديلات اخرى, ليس في المخ طبعا وانما فيما نعرفه عن المخ. من ذلك مثلا, ان عضلة المخ اذا جاز لنا ان نسميها عضلة تحتوي على 14 مليار خلية كل منها تشكل عملا مستقلا.. ولكن كل خلية لديها جهاز اتصال مع كافة بلايين الخلايا الأخرى. ولك ان تتصور كيف تعمل هذه الأعداد اللانهائية من خيوط شبكات الاتصال. ويقول العالم البريطاني ديفيد ويكس اننا لو أردنا صنع جهاز كمبيوتر يتضمن هذا الكم الهائل من الاتصالات لاحتجنا إلى مساحة أكبر من المحيطين الهادي والأطلسي معا كي تسع لهذا الكمبيوتر. غير ان هذا لم يكن الاكتشاف الوحيد أو الأهم. فقد أجرى العلماء أبحاثهم على أمخاخ بشرية, وأمخاخ حيوانية لأنواع مختلفة من الحيوانات ابتداء من الجرذان حتى القردة العليا, فاذا بهم يصلون إلى حقيقة مذهلة. ففي جميع الحيوانات بغير استثناء تنقسم عضلة المخ إلى قسمين أو قل فصين مثل حبة الفول, متطابقين تمام الانطباق في التكوين وعدد الخلايا والوظائف. ما عدا مخ الانسان.. فإن النصف الأيمن للمخ, مع انه ينطبق على النصف الأيسر من حيث الشكل وعدد الخلايا, إلا انه يختلف معه في الوظائف. فإن خلايا كل من النصفين لها وظائف تختلف عن النصف الآخر. ولنأخذ خلايا المجموعة السمعية على سبيل المثال. أحد النصفين يسمع صوتا فيعرف هل هو همس لا يكاد يسمع أم هو (فرقعة) تصم الآذان. أما النصف الآخر فهو الذي يحدد النغمة والنبرة وهل هو صوت قنبلة تنفجر أو طبلة لها ايقاع.. أو هل هو صفارة حكم في مباراة كرة قدم أم فحيح ثعبان! وبالتالي يصدر التعليمات المناسبة للصوت المسموع. نفس الشيء يقال عن مجموعة الخلايا الخاصة بحاسة البصر. فإن أحد النصفين يرى شكلا هندسيا فيدرك انه شكل رباعي.. اما النصف الآخر فهو الذي يحدد ما اذا كان هذا الشكل الرباعي مربعا قائم الزوايا متساوي الأضلاع أم هو مستطيل أو معين أو شبه منحرف.. إلخ. النصف الأول لا يدرك من طعم أي شيء إلا ان هذا حلو وذاك مر المذاق.. أما النصف الثاني فهو الذي يميز بين طعم العنب والتفاح والبطيخ والفول السوداني والسمك والكباب. يعني باختصار ان النصف الأول هو المسؤول عن وظائف الكائن الحي, أما النصف الثاني فيقوم بوظيفة الفنان. ولكن ما هي أهمية هذا الاكتشاف؟ يقول العارفون ان هذا الكشف حول مخ الانسان قد دق آخر المسامير في نعش نظرية دارون. ففي كل درجات سلم النشوء والارتقاء لم يوجد أبدا أي كائن بدأت معه قدرة الفنان ثم تطورت كما هي الآن لدى الإنسان. المشكلة, هي ان العلماء لم يتوصلوا حتى الآن إلى قياس أي خلاف في الشكل والتكوين بين خلايا النصفين. الخلاف فقط في الوظائف.. أما كيف حدث هذا, فعلمه عند ربي. غير أن هذا الاكتشاف يطرح أمام العلماء أبعادا أخرى أهمها انه ما زال هناك في داخل الانسان عناصر اخرى وأشكال لا تستطيع ان تجد لها توصيفا في حدود معارفنا.. فهي ليست مادة تقاس بالطول أو الوزن, وليست طاقة تقاس بالموجة أو الواط. كل ما توصلوا اليه هو ان وزن مخ الانسان وهو حي يزيد بضعة مليجرامات عنه عندما يموت صاحبه. ومهما اختلفت الآراء, فإن هذه الزيادة الطفيفة لابد وأن تكون ناجمة عن شيء ما. هل معنى ذلك ان الروح لها وزن؟ الله وحده هو الأعلم.. فالروح من أمره.. ولن تجد علمها إلا عنده.

Email