استراحة البيان: دردشة رمضانية حول اختلاف درجة الغليان: يكتبها اليوم- مصطفى كمال

ت + ت - الحجم الطبيعي

قال سقراط اعرف نفسك تعرف العالم, وبعده بأكثر من ألفي سنة قال سيجموند فرويد ان كل عالم لديه معمل اختبارات وتجارب يجري فيه ابحاثه وتجاربه , اما عالم النفس فهو يحمل معمله في داخله. والمعنى واضح, وهو انك بشر مثل سائر البشر مهما اختلف اللون او الاصل او الانتماء او الثروة او الثقافة فإن التركيبة النفسية في النهاية واحدة.. بمعنى ان ردود فعل البشر جميعاً وبالتالي سلوكهم وتصرفاتهم تظل واحدة.. ما يفرحك لا بد وان يفرح الآخرين وما يشقيك حتما يشقيهم وما يغضبك يغضبهم.. وما يطربك يطربهم.. وهكذا. وهذا كلام مقبول او معقول وعلى العين والرأس وعندما نتناوله من منطلق ان يحب المرء لأخيه ما يحب لنفسه سنجده آية في الدعوة للاخاء الانساني واشاعة السلام والمحبة بين سائر البشر. ومع ذلك فإنه وان كان صحيحاً على وجه العموم الا انه لا يبدو كذلك عندما ندخل في التفاصيل. فالناس ليسوا ارقاماً حسابية, او معادلات كيماوية تستطيع ان تضع لها قواعد وقوانين ثابتة بحيث تعرف نتيجتها سلفا اذا تعرضت لاي طارىء او بلغة الفلسفة اذا تعرضت لأي محرك او دافع فأنت تعرف مثلاً ان حاصل ضرب 2x3 يساوي ستة ولا يمكن ان يكون خمسة او سبعة او ستين وان الماء يتحول الى بخار عندما ترتفع درجة حرارته الى مائة او الى ثلج عندما تنخفض الى اربع درجات. ولكن الأمر بالنسبة للانسان يختلف ولا توجد قوانين ثابتة تحكم ردود الافعال لدى البشر بحيث لا تختلف في الهند عنها في بلاد الاسكيمو بل هي مختلفة حتى بين الاخ وشقيقه وبين الجار وجاره, واذا كنا نغلي بالغضب ازاء محرك طارىء مثل ضرب العراق فإن درجة الغليان تختلف.. وقد تنخفض لدى البعض الى مستوى غليان السبرتو وتحتاج لدى البعض الآخر الى مستوى حرارة قلب الشمس. وهذا الاختلاف قد يصل الى حد التناقض وهو ما عبر عنه شكسبير بقوله على لسان عطيل (ما هو سكر في فمك علقم في فمي) . وبما اننا صائمون فإني ادعوك الى تجربة صغيرة يمكن ان تعتبرها من باب تسالي رمضان.. ولتكن هذه التجربة في صالة احد البنوك, صبيحة اليوم التالي للاجازة الاسبوعية, ولنتأمل من احد طوابير المتعاملين امام شبابيك الصرف. الطابور طويل اكثر من 20 شخصا ويبدو وكأنه لا يتحرك والصراف شديد الاناة في عمله وهو معذور ولا شك لأن اية هفوة منه قد تعني حرمانه من العمل وربما تحمله الى السجن, ومن ثم فهو لا يعنيه طال الطابور ام قصر. وقد تمضي عشر دقائق تتباطأ وكأنها عشر ساعات بالنسبة للواقفين حتى ينتهي من معاملة واحدة.. والآن, فلنتأمل ردود الفعل لدى المتعاملين الذين طال بهم الانتظار لنرى كيف تختلف مع انهم جميعا يواجهون محركا واحدا.. انظر الى هذا الرجل الذي يتململ على قدميه ويطلق زفير التأفف من حين الى آخر وشرارات الغضب تتجمع في عينيه ثم هو يطل برأسه من فوق الاكتاف ليرى ما الذي يعطل الصراف ويمنع الطابور من الحركة وقد تصدر عنه اصوات غريبة يمكن للقريب منه ان يترجمها على شكل كلمات تقول اللهم طولك يا روح, او لا حول ولا قوة الا بالله.. وهذا شخص آخر يزم شفتيه في غضب مكبوت مستمسكاً بأهداب الصبر دون ان تصدر منه حركة او صوت. وهذا ثالث يخرج من جيبه ورقة مكتوبة يراجع فيها بعض الحسابات وربما كانت رسالة من عزيز يستعين بها على الصبر.. وذلك رابع ساكن هادىء منتظراً دوره باستسلام مقتنعاً بأن هذه هي الحياة. طالما قدره ان يتعامل مع البنوك من خارج شباك الصرف وليس من داخل حجرة المدير. وهكذا ترى ان درجات (الغليان) تختلف مع ان الجميع يواجهون موقفاً واحداً, وفي لحظة واحدة.. فإذا خرجت الى الشارع ستجد الاختلاف في ردود الافعال اكثر (ضجيجاً) فالناس في البنوك على اية حال يلتزمون بقاعدة الا صوت يعلو فوق صوت الدراهم اما في الشارع فإن الهواء الطلق وانكشاف الناس للسماوات المفتوحة يجعلهم اكثر تلقائية وانفتاحاً واقل اقتناعاً بمزايا الصبر وطول البال.. فإذا انحشرت طوابير السيارات فوق الجسر قد ترى احدهم يفرغ غضبه كله في بوق سيارته يزعج به كل الذين من خلفه ومن امامه, مع ان احدا من هؤلاء الذين يسمعونه لا يملك الانفكاك من ازمة الجسر.. وقد تجد سائقاً آخر ينصرف الى الراديو ليسمع نشرة الاخبار او يبدل الكاسيت ليستمع الى ام كلثوم وهي تغني للصبر حدود.. اوثالثاً يخرج من سيارته صافعاً الباب بعنف ليطل من على سياج الجسر متأملا الامواج, ومتمنياً لو كان مثل السمك, يسبح في الماء دون زحام حتى يأذن الله وينفرج الطريق. غير ان الاختلاف في درجة الغليان يبدو على اشده في الحياة العائلية داخل البيوت وخلف الجدران.. وبعض الناس يعللون انفلات الاعصاب في المنزل بأن هذا هو المكان الوحيد الذي يستطيع فيه المرء ان ينفس عن كل الغضب المكبوت الذي يعانيه من لحظة خروجه من داره حتى لحظة عودته, سواء بسبب ضغوط العمل او متاعب الطريق. غير ان الانسان العاقل لا ينبغي له ان يستسلم لخطر انفلات أعصابه, أولاً لأن هذا الانفلات سيقود حتماً الى ردود فعل مماثلة من الآخرين, وبذلك تنقطع سبل الاتصال السليمة بينه وبين المحيطين به او المتعاملين معه بما يعود عليه وعلى المجتمع كله بضرر واضح, وثانياً لانه اكثر عرضة للاصابة بالعديد من الامراض مثل ضغط الدم وعسر الهضم وقرحة المعدة والامعاء الدقيقة والغليظة وتصلب الشرايين وضيق التنفس وغير ذلك من العلات التي تقصر العمر أو على الاقل تجعل صاحبها يفقد طعم الحياة.. وكل ذلك بسبب (انخفاض معدل الغليان) لدى انسان العصر الحديث.. ولكن الا توجد وسيلة لعلاج هذا الخطر او اتقائه قبل استفحاله؟ يقول البروفيسور كاري كوبر الاستاذ بمعهد مانشستر للعلوم والتكنولوجيا ان هناك اعراضاً بسيطة في ظاهرها يستطيع الانسان ان يكتشفها بسهولة فيعالجها من تلقاء نفسه قبل ان تتحول الى داء يصعب علاجه. فاذا وجدت نفسك ــ مثلاً ــ اذا خاطبك مخاطب تتعجل حديثه, بل تسبقه الى استكمال جملته قبل ان ينهيها.. او تشعل سيجارة ثانية بينما الاولى ما زالت في مهدها, او تحاول انجاز عملين مختلفين في وقت واحد.. او تقفز السلالم صعوداً او هبوطاً درجتين او ثلاث في القفزة الواحدة دونما سبب منظور للعجلة. واذا كنت في كل الامور معاتباً صديقك او شريكك او زميلك او جارك فيما يستحق ومالا يستحق.. واذا كنت تشعر بعقدة الذنب كلما اخلدت الى الراحة او اعطيت نفسك اجازة من العمل.. فإن هذه الاعراض.. كلها او بعضها تكون بمثابة اجراس انذار تنبه صاحبها الى الخطر الوشيك حتى يتفاداه. وما اسهل العلاج من اية علة اذا اكتشفها المرء وهي في مراحلها الأولى.. عافاكم الله وعافانا, واحسن صيامنا وعقبانا.

Email