استراحة البيان: معجزة عمرها 30 عاما: يكتبها اليوم- محمد الخولي

ت + ت - الحجم الطبيعي

جهد العقاد في الدعوة الى كسر جمود الشعر وتحرير اغراضه من القيود التي رسمها السلف القديم. ووصلت دعوته في التحرير الشعري الى حد ان كتب ـ كما اسلفنا ـ ينعي كلبه الاثير ويجوب المسالك والحارات يلتقط لمحة عن كواء الثياب او عسكري المرور.. عابرا سبيل الحياة اليومية ببساطتها وسذاجتها وعفويتها, وربما نجح العقاد في دعوته, وكان يومها في الثلاثينات من عمره. ولكنه اخفق في ترجمة هذه الدعوة العفية الطموحة الى شعر يرقى الى مستوى نضجها وفتوتها. مع هذا كله.. نحسب انه لولا دعوة العقاد, لما انفسح الطريق رحبا واعدا امام الجيل الاحدث الذي فتح عيونه الذكية الشغوف على عالم يعاد تشكيله بعد الحرب العالمية الثانية, ومن ثم على سنوات الصراع الدولي واللهيب الثوري والامال الباذخات في عقد الخمسينات... لولا العقاد ودعوته مع رفيقيه شكري والمازني لما امكن لصلاح عبدالصبور مثلا ان يقول عند مطالع الخمسينات: ... ياصاحبي اني حزين. طلع الصباح فما ابتسمت, ولم ينر وجهي الصباح, وخرجت من جوف المدينة اطلب الرزق المتاح. وغمست في ماء القناعة خبز ايامي الكفاف ورجعت بعد الظهر في جيبي قروش فشربت شايا في الطريق. ورتقت نعلي. ولا امكن لاحمد عبدالمعطي حجازي ان يفتتح قصيده الجميل بالسؤال عن حي السيدة زينب القاهري ـ ياعم من اين الطريق؟ اين طريق (السيدة) ؟ ـ أيمن قليلا ثم أيسر يا بني قال ولم ينظر الي وسرت ياليل المدينة أرقرق الآه الحزينة اجر ساقي المجهدة للسيدة بلا نقود, جائع حتى العياء بلا رفيق كأنني طفل رمته خاطئة فلم يعره العابرون في الطريق حتى الرثاء ولا امكن لصديقنا ساكن نيويورك احمد مرسي ان ينقل الغرض الشعري من وطن الشعر الى حيث الاقامة في مانهاتن فيقول: اكتظ المصعد ذات مساء بنساء شمطاوات يلبسن معاطف من فرو اكلته العثة من سوء التخزين وطول سنين الاجساد المحنية ناحلة لكن تجاعيد الايدي والاوجه تحت مساحيق المكياج تنوء بآثار السنوات تنوء بثقل الوحشة والخوف المتسلط من شيء مجهول واحمد مرسي هو بيت القصيد, في هذا الحديث.. حكايته حكاية, كما يقول أهلنا في مصر... لا تدري هل تصفه بأنه الشاعر اذ يصدر عن هذا النفس الشعري بالغ الرقة والعذوبة والشجن.. ام تصفه بالرسام فهو يقف في طليعة المدارس الحديثة في ابداع الفن التشكيلي المعاصر في الوطن العربي, ام تصفه بالكاتب الصحفي حيث شارك, ضمن فريق من الرواد, في انشاء وكالة انباء الشرق الاوسط وهي الوكالة ـ الام او الشقيقة الاكبر لمؤسسات الاخبار العربية, ثم رأس تحرير مجلة (جاليري ـ 68) التي كانت المطبوعة الطليعية التي كانت تفيض ابداعا وعفوية ووعودا مع مطالع السبعينات ــ ثم هناك, حتى لا ننسى احمد مرسي المترجم الذي شارك صديقه الشاعر العراقي الكبير عبدالوهاب البياتي في اثراء العربية بترجمة عن شاعر المدرسة الفرنسية المحدثة (بول ايلوار) وترجمة اخرى عن شاعر المقاومة (لويس اراجون) فضلا عن ترجماته لمسرحيات (ارثر ميللر) وقصائد لشاعر الاسكندرية اليوناني كافافي وللشعراء السود المعاصرين في امريكا. نموذج احمد مرسي هو الذي يخفف عن امثالنا معاناة الاغتراب وخاصة في بلد صاخب مائج لاهث الايقاع مثل امريكا حيث خطت بنا مطالب العيش وانواء الوظيفة وما ظنك بالعبد الفقير وهو ثالث ثلاثة يتحلقون كل اسبوع او اسبوعين حول قطعة هيأوها لأنفسهم ولعائلاتهم من ارض الوطن او ثقافة الوطن وقد شاءت اقدارهم ان تنسج فيما بينهم خيوطا من التشابه والتباين وهم يتفقون على ان الوطن ثقافة وذكريات وابداع وحوار ثم يختلفون من حيث السيرة والمهنة والتكوين.. الفقير كاتب السطور مثل منقوع في بحر السياسة يراوح ما بين المستقبليات التي تموج بها امريكا وبين جذور التراث وعواميد اللغة واشعار المتنبي وكشاف الزمخشري ورسائل الجاحظ وحوليات ابن اياس.. ثاني الثلاثة هو البروفيسور قدري العربي استاذ العمارة في جامعات امريكا, وهبه الله علم المهندس وفن المعماري وانامل الخطاط ورهافة العازف المقتدر على العود. ثالث الثلاثة هو أحمد مرسي الذي قصدنا ان نجعله محورا لهذا الحديث: بين ايدينا اخر (دواوينه الشعرية وعنوانه (صور من البوم نيويورك) وعليك ان تلاحظ كيف تفضح شخصية فنان التشكيل على شخصية فنان الشعر حتى في عنوان الديوان الجديد, وله قصة تستحق ان تحى لقد صدر بعد 30 عاما انقطع فيها الشاعر عن قول الشعر: وانسلبت اثناءها مياه غزيرة تحت كل الجسور واصبح الشعر بالنسبة لصديقنا مرسي تاريخا يروى. وذكريات عن ايام الشعر في زمن البراءة منذ اصدر ديوانه الاول (اعاني المحارب) وكان وقتها صبيا في السادسة او السابعة عشرة ودخل بهذا الديون البكر ضمن رواد الشعر الجديد او الحديث. لاعجب ان يهدينا احمد موسى ديوانه الجديد الصغير وقد وصف عوانه الى الشعر بانها (معجزتي الصغيرة) التي اثبت بها لنفسي على الاقل انني قدارعلى العطاء بعد كل شيء, وهذا الشيء يشمل العمر وتجنب (اقتراف) كتابة الشعر حوالي 30 عاما) . ولقد قيص للشاعر ان يقيم في مانهاتن في مكتب نيويورك على مدى ربع القرن الاخير وكان لابد لنيويورك ومشاهدا وناسها وشخوصها ان تترك تأثيراتها على ابداعات احمد مرسى في لوحات الرسم وفي قصائد الشعر على السواء. بيد انها لم تكن نيويورك الصورة او المظهر بل كانت نيويورك العبرة والروح والجوهر والصميم اقرأ مثلا افتتاحية احدى القصائد: انصح من يبغي السكن في مانهاتن ان كان يخاف مطاردة الموت المتربص في الاركان, وفي الشقق المهجورة, في دهليز الغسالات المظلم, في المصعد ان لايحبث عن عبيت مبنى قبل الحرب الموت هناك يعيش مع السكان يتحرك تحت قناع يشبه! قنعه الناس الاخرى بمحطات (الصبواى) ومن عجب ان يستدعي التجوال في طرقات مانهاتن ومسالك بنويورك التي يعرفها احمد مرسى كمن يطالع ظاهر يده صحبة النفرى الصيوفي الذي استدعاه الشاعر من حجب القرون وقد حظى النفري باثنين من قصائد الديون الثماني عشرة ومنهما قصيدة بعنوان (قسم الين لمقابلة النفرى) وتقول: راودتني الرغبة في ان القاك ذات يوم في اسكندرية كفاني ولكنها اختفت وتلاشت في غبار التاريخ ومضى اربعون عاما على الغربة في اوطان مراوغة تبعدني عن مدنيتي كلما خيل لي اني قاب قوسين من شطأنها. مارأيك لو نلتقي في مسجد بالبصرة او في نيويورك؟ التي اوثر اللقاء بمانهاتن لكي لاتضجع من رؤية البصرة عرياتة بدون نخيل لابد اتاك النبأ المحزن مسقط رأسك (نفر) داستها اقدام الدهر ولولا اسمك لاندثر الاسم من التاريخ. كما اندثرت اسماء اخرى هل لي ان انصح مولانا ان كنت ستأتي في جسد الا تلبس زي القرن العاشر او حتى القرن العشرين ويكفي ان تندثر ان جئت مساء او صبحا بمواقفك الكاشفة الاسرار. ولان الشعر المعاصر على نحو ما دعا اليه العقاد وصاحباه لايعرف تصنيفه (جاهزة او وصفة) مسبقة للاغراض, فها هو الشاعر احمد مرسي ينتقل من الحديث عن قطب صوفي بارز في التاريخ الى تسجيل لقطة او لحظة تمسى شفاف القلب في قصيدة هي الاقرب الى نفس كاتب السطور وهي احفل مفردات الديون الصغيرة بالشجن والضرورية عنوانها ببساطة هو (الكلب) ويقول مطلها: لا اذكر, بلا حرى لا اعرف من لاحظ ان القلب يشابه صاحبه بعد العيش معا بضع سنين فكثيرا مايذهلني الشبه المعكوس على قسمات الوجه وفي تعبير العينين وحتى احيانا في المشية والتكوين ان انسى, فلا انسى يوم حكمت على كلبي الاعمى (روك) بلاعدام ويوم ذهبنا في تاكسي الى مستشفى الرافية بالحيوان وكان طوال الرحلة يرمقني بعين دامعة عمياء ويكف رجعت كسيرالقلب كأى صديق سدد ضجره في قلب صديق.

Email