استراحة البيان، حلم بزمان ابن بطوطة، يكتبها اليوم: صلاح عويس

ت + ت - الحجم الطبيعي

أرجو ألا يتهمني أحد بالبكاء على (الاطلال) مثلما كان يفعل العاشق العربي القديم عند أطلال مضارب محبوبته.. ذلك ان هناك صورة لا تكاد تفارق خاطري من وقت لآخر ممتزجة بسؤال ملح.. الصورة هي ان العربي القديم كان يستطيع ان يمتطي ظهر راحلته ثم يجوب الوطن العربي الكبير من مشرقه الى مغربه . لا يعترضه ضابط جوازات يحملق في صورته المعلقة على جواز سفره كما يحدث الآن.. ولا يحيله الى ضابط أمن يتفرس في ملامحه ويقلب النظر منه الى صورته ومن صورته الى وجهه.. ولا يحيله رجل الأمن هذا الى غرفة مغلقة يتلقاه فيها محقق (مستريب) يعتصره بأسئلته عن أصله وفصله ومن أين أتى.. والى أين يذهب.. ولماذا يأتي من هناك ويذهب الى (هنا) .. وينظر بعين الشك والريبة فيما قد تقع عليه عيناه مع المواطن العربي المسكين من ورق أو صحف أو كتب.. ثم اذا فرغ من هذا (الاستنطاق) لا يخلو الأمر من سؤاله عن أمه وأبيه وزوجه وبنيه وأصدقائه وأعدائه ومعارفه وزملائه.. فاذا ما اقتنع أخيرا.. أو تظاهر بالاقتناع.. تكرم بالافراج عنه ليتلقاه رجل آخر (مستريب) ايضا.. هو رجل الجمارك الذي يرمقه ايضا بعينين جاحظتين تقلبان النظر الى جيوبه وحقائبه ــ ان كانت معه حقائب ــ ويكاد يلتهمه الرجل بعينيه لعل تلك النظرات تصيبه بالرعب فيفصح المواطن المسكين عما في جيوبه أو حقائبه. تلك هي بعض جوانب الصورة قديما وحديثا.. أما السؤال الذي لا يفتأ يلح على عقلي وعلى عقول الملايين من ابناء الوطن العربي الكبير فهو: كيف كان يتاح لشاعر عظيم كأبي الطيب المتنبي مثلا ان يركب راحلته ويتجول بها حتى يصل الى مصر؟! وكيف كان ابن بطوطة يجوب الآفاق العربية ليسجل رحلاته العظيمة؟! بداية النهب الاستعماري والجواب واضح وبسيط.. ذلك ان الوطن العربي كان يستمتع بوضع وحدوي يلغي الحدود بين أجزائه في المشرق والمغرب في ظل الدولة الاسلامية الواحدة.. حتى اذا تمزقت هذه الدولة وتشرذم العرب وانقضّت الدول الاستعمارية الأوروبية كل واحدة منها تنهب قطعة أو أكثر من الكعكة العربية الشهية, قامت تلك القوى الاستعمارية بفرض الحدود المصطنعة فرضا وحوصر المواطنون العرب كل في الإطار الذي حددته له تلك القوى وبدأت عملية النهب الاستعماري الأوروبي للوطن كله بخيراته وموارده الهائلة. ولم تسمح تلك القوى البغيضة بأي تقارب أو تضامن بين أشلاء الوطن العربي, وعملت على تمزيقها وبث بذور الفرقة, بين أبنائها وحكوماتها عملا بالمبدأ الاستعماري الشهير: (فرّق تسد) .. حتى إذا اخترق العرب ذلك الحصار وقفز حلم الوحدة الى الوجود في أول وحدة عربية حقيقية في العصر الحديث .. وهي الوحدة بين مصر وسوريا .. سارعت القوى الاستعمارية الى ضربها وإجهاض آمال الأمة العربية التي أنعشتها تلك الوحدة السورية - المصرية, ذلك أن قوى الاستعمار والصهيونية تدرك جيدا ان تلك الوحدة تقف سدا منيعا ضد أطماعها. آمال الوحدة ولا يملك الانسان منع نفسه من هذا النوع من التفكير وهو يحتفل هذه الأيام بالعيد الوطني السابع والعشرين لدولة الامارات العربية المتحدة .. هذه التجربة الوحدوية الخيرة التي كان لها آثار هائلة اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا لعل الجميع يلمسونها هذه الأيام في كل جوانب الطفرة التنموية الرائعة التي شهدتها دولة الاتحاد على مدى الأعوام الماضية منذ إعلانها, ويجب ألا يغيب عن بالنا أن أصحاب السمو حكام الإمارات الذين التقت قلوبهم وآمالهم على التوحد فيما بينهم والقضاء على كل أسباب الفرقة والضعف .. هم أنفسهم الذين كانوا آنذاك من شباب الأمة العربية الذين عاشوا آمال الوحدة العربية منذ شبابهم وخفقت قلوبهم مع إخوانهم أبناء الأمة العربية جميعا لدعوة الوحدة, ولذلك سارعوا الى تلبية ندائها وتحدي كل المعوقات, كذلك لا يجب أن ننسى أن عددا كبيرا من أبناء الإمارات الذين أتيح لهم ان يشغلوا مواقع المسؤولية في دولة الاتحاد خاضوا التجربة في كل نواحي الحياة..في الاعلام .. والاقتصاد.. والتعليم.. والصحة وغيرها ولعلها كانت تجربة غنية وربما سقط البعض ولم يستطع الاستمرار في حمل الامانة الشاقة ولكن عددا لا بأس به كان أكثر صمودا, واشد عزيمة واصلب عودا.. ومع كل الايجابيات الكبيرة التي اثمرتها التجربة على مدى السنوات السبع والعشرين, تظل هناك آمال ما زالت في حاجة الى المزيد من الجهد والعمل والعرق.. وهي آمال تستحق كل تضحية. وأعود فأرجو القارىء العزيز الا يتهمني بالشطط في التفكير وفي الاحلام اذا قلت ان الوحدة العربية الكبرى حلم قابل للتحقيق اذا صدقت النوايا وصحت العزائم ووضعت الخطط العملية السليمة لتحقيقها.. ولعل الاجيال المقبلة تعيش لحظات تحقيق هذا الحلم.. حلم (الولايات العربية المتحدة) كمواطنين في دولة عظمى بأبنائها ومواردها وموقعها.. ولسنا اقل من اليهود شأنا الذين خططوا لاطماعهم وعملوا على التهام فلسطين قطعة وراء قطعة حتى فرضوا دولتهم امرا واقعاً رغم انوفنا جميعاً. والقياس هنا مع الفارق فلسنا نحن العرب اصحاب اطماع توسعية او عدوانية.. بل نحن أمة صاحبة حق في الوحدة وحماية ثرواتنا القومية ومقدراتنا. مناسبتان كريمتان وتشاء المصادفة التاريخية ان تلتقي احتفالاتنا بالعيد الوطني بانعقاد القمة الخليجية في السابع من هذا الشهر في مدينة أبوظبي.. ليربط بين المناسبتين حبل الوحدة على نطاق اوسع واشمل بين دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية املا في زيادة وتيرة التعاون بين هذه الدول وتحقيقا لآمال التكامل وتحقيق الاستقرار والامن والرخاء في ربوع شعب الخليج الواحد.. ذلك ان اي انجاز يحرزه مجلس التعاون الخليجي في هذا السبيل هو رصيد يضاف الى الامة العربية كلها.. ذلك ان منطقة الخليج العربي جزء من الوطن العربي الكبير وأمنها لا ينفصل عن الامن العربي الشامل.. تلك حقيقة واقعة لا يدحضها قول حاقد او زعم داعية للانفصال او تردد يائس. ويوما ما.. في عام ما.. في قرن ما من الزمان.. سوف يمتطي المواطن العربي ظهر (سيارته) او (طائرته النفاثة) .. ليجوب ارجاء الوطن العربي الكبير دون حدود او جمارك او جوازات سفر وربما ظهر في المستقبل شاعر آخر كالمتنبي او رحالة عظيم آخر كابن بطوطة.

Email