استراحة البيان: الماضي الجميل... وأيامه: يكتبها اليوم- مصطفى كمال

ت + ت - الحجم الطبيعي

الحديث عن(الماضي الجميل)له رنين خاص لدى الذين لم يعيشوا ذلك الماضي, ولم يعرفوه الا من خلال أفلام السينما ومسلسلات التلفزيون , فيمصمصون الشفاه أسى وحسدا لأجدادهم الأقربين الذين ذاقوا حلاوة زمان ونعموا بجنات وارفة الظلال.. بيوتهم قصور, وشوارعهم ناعمة كالحرير منسابة لا تعرف اختناقات المرور.. وهواتفهم حساسة لا تكاد ترفع السماعة حتى يأتيك صوت من تطلبه في الحال دون تأخير. ونساؤهم كلهن هوانم جاردن سيتي, سابحات فاتنات كأنهن عارضات ازياء أو نجمات هوليوود, ورجالهم مهفهفون متألقون كأنهم مستنسخات من سليم البدري أو على الاقل من صلاح السعدني. والعالم يعيش في حلم دائم يستيقظ ويمسي على أنغام عبد الوهاب وأم كلثوم وعبد الحليم وفريد.. فإن اشتاق لبعض الكوميديا سيجدها اشبه بالسحر لدى الريحاني وشكوكو واسماعيل ياسين وماري منيب. والصف الدراسي لايزيد عدد تلاميذه على عشرين.. وعساكر المرور لا يجدون عملا سوى معاكسة بائعات الفل والياسمين, والأمن مستتب. فلا ارهاب ولا فوضى ولا احتجاجات. الراكبون في سياراتهم القليلة يسرعون في الطرق الخالية دون ان يشغلهم شاغل, والسابلة يسيرون ملتصقين بالجدران حامدين الله الذي لا يحمد على مكروه سواه. وحتى مشاجرات الشوارع والمقاهي لاتكاد احداها تبدأ حتى تنتهي بضحكات من القلب وقفشات متبادلة. ويسمع ابناء الاجيال الجديدة عن كل ذلك, وهم يرون زوجات يقطعن اجساد ازواجهن, بالسواطير, ويقارنون بين حالهم اليوم وذلك الماضي البعيد الجميل فلا يملكون سوى التحليق في السماوات مع عفريت النبي سليمان والحسرة على زمان مضى وهيهات أن يعود. ومع ذلك فإن الصورة لم تكن وردية أبدا كما يتصور الذين لم يعاصروها ففيما عدا تلك المليمترات القليلة في قاع الكأس الفارغة.. كان سواد الناس يتخبطون في وحل ثلاثية الفقر والجهل والمرض.. عراة حفاه بالمعنى الحرفي للكلمتين. ويكفي ان نذكر في هذا الصدد ان (خطاب العرش) الذي اعتاد رئيس الحكومة ان يلقيه في افتتاح الدورة البرلمانية كل عام, ظل لمدة عشرين سنة أو أكثر يكرر عبارة محفوظة تقول (وستعمل حكومتي على مكافحة الحفاء) !! ومع ذلك, ظل الحفاء وصمة مشتركة تمنع وجود أي عازل بين سواد الناس والارض التي يمشون عليها. الماضي الجميل.. لم يكن ماضي هؤلاء.. وإنما كان ماضي المجتمع المخملي الذي قامت الثورة على انقاضه.. مجتمع الباشوات والبكوات والعاطلين بالوراثة.. وهؤلاء وبقاياهم فقط هم الذين يحق لهم أن يتحسروا عليه, ويذكروا حسناته. ولقد اتيح لي في سالف العصر والاوان ان اعرف عن قرب واحدا من هؤلاء.. كان باشا يرجع تاريخ الباشوية في اسلافه حتى عصر محمد علي, ارسله ابوه الى فرنسا ليدرس الطب فأقام في باريس عشر سنوات دون ان يحصل على اية شهادة, بل ربما دون ان يدخل كلية الطب اصلا وعاد بعد وفاة ابيه وفي يده ـ بدلا من شهادة الطب ــ زوجة التقطها من احدى بارات عاصمة النور, وربما كان من حسن حظه انها لم تطق حياة الشرق فهجرته الى بلدها وتزوج بعدها احدى قريباته (وضم ثروتها الى ماله) . ولكن هذا ليس هو المهم, وانما المهم انه ورث عن ابيه لقبه, ومنصبه في الحزب السياسي الذي تنتمي اليه اسرته.. واصبح قطبا شهيرا فى مجتمع الماضي الجميل, واذا كان قد فشل في دراسته الاكاديمية بفرنسا فإن الذي لاشك فيه انه تعلم هناك اشياء ربما لا يعرفها معظم اقرانه, ومن هذه الاشياء اهمية ان يقترب من رجال الصحافة والادب القادرين على تلميع صورته واضفاء لقب الباشا المثقف الى جملة القابه.. وفي سبيل ذلك كان يقيم لهم الحفلات والولائم في كل مناسبة وبدون مناسبة.. يكونون هم فيها ضيوف الشرف, ويكون هو العريس الذي تدبج القصائد في وصف كرمه ومحاسنه. غير ان اعظم هذه المآدب واحفلها كان الاحتفال بيوم شم النسيم.. فهو يقيمه في قصره بقريته القريبة من العاصمة والذي ينتقل الضيوف اليه بسيارات الباشا في الصباح المبكر ليتناولوا هناك افطار شم النسيم المعتاد, البيض والخس, والكافيار بدلا من الفسيخ واصناف المشهيات المستوردة بدلا من البصل, والباشا يطوف بينهم سعيدا متواضعا يبادلهم النكات والنوادر, ويستمع, ويستمع معه الجميع الى قصائد المنافقين.. حتى اذا ما حان وقت الغداء انتقلوا كلهم الى قاعة الطعام الفسيحة حيث الموائد مرصوصة واسماء الضيوف مكتوبة بماء الذهب ليعرف كل واحد مكانه. وطابور (السفرجية) بقفاطينهم البيضاء واحزمتهم وطرابيشهم الحمراء يتدفقون على الضيوف باكوام من الاطعمة مختلفة الالوان والاشكال ولكن احدا منهم لايقترب من الباشا الجالس الى رأس المائدة الرئيسية وامامه صحن واحد, به قطعة من الجبن الابيض, وحوله طاقم السرفيس كاملا من كل صنف اثنتان.. ملعقتان وشوكتان وسكينتان. وقبل ان يبدأ الحاضرون في التهام ما تستطيع شهياتهم استيعابه جرت العادة ان يستمتعوا معا بأهم طقوس احتفال الباشا بشم النسيم.. ذلك هو المشهد الذي يقوم بادائه واحد من رعاياه, اسمه حسيب المندوه. وكان حسيب هذا شابا دون الثلاثين طويلا ممصوص القوام مثل عود القصب حليق الوجه والشارب, وتكاد ضلوعه تظهر ناتئة تحت جلبابه الابيض كأنها عوارض مركب صيد تحت التشطيب. وعندما ظهر حسيب الى جوار الباشا صفق له محييا, وداعيا الضيوف الى مشاركته التصفيق فأحنى حسيب رأسه للجمهور كما يفعل نجوم المسرح, وانصرف الى اداء عرضه الذي بدأ بعربة تروللى يعلوها خروف مشوى كامل الاوصاف تتصاعد منه ابخرة الشواء, فما ان توقفت العربة حتى راح يدور حولها يتشممها كما يتشمم الكلب العظام, حتى اذا ما اقترب وجهه من لية الخروف التي كانت قطرات الدهن المذاب تتساقط منها ركع تحتها, واطبق بفمه على طرفها, ثم شفط شفطة قوية كان لها شخير, فإذا باللية الساخنة تنكمش ودهنها المذاب ينزلق الى جوفه حتى لم يبق منها سوى عظام فقرات الذيل بيضاء من غير سوء. ثم تبدأ المرحلة الثانية من عرض (التهام الخروف) بتقطيع الوركين ثم الكتفين ثم لحم الصدر والظهر على شكل هبر ونسائر, فيلف كل هبرة في نسيرة ثم يقذف بها في جوفه بحركة آلية منتظمة كأنها طلقات مدفع مضاد للطائرات اثناء غارة جوية, وفي نفس الوقت تختفي معها في جوف الباشا لقيمات من قطعة الجبن الابيض في طبقه, يرفعها الى فمه بالشوكة والسكين, وهو يتابع حسيب جاحظ العينين لاهث الانفاس.. بل وكأنه احيانا يجد صعوبة في الابتلاع. حتى اذا ما تحول الخروف المشوي الى كومة من العظام.. ولم يبق من قطعة الجبن الابيض سوى بعض الفتات.. تنفس الباشا الصعداء فتعلا نظرة بين ضيوفه الكرام وكأنه انجز عملا عظيما.. ومسح يديه في الفوطة امامه يجزل وهو يربت على بطنه كأنما هو الذي التهم الخروف. اما الضيوف فقد الهاهم العرض لحظة, ثم فتح شهيتهم اللحظة التالية فاقبلوا على طعامهم وقد ازداد ايمانهم بالحكمة السائرة (اطعم الفم تستحي العين) ولم ينتبه احد منهم الى صوت حسيب المبحوح) هو يقول: (لو سمحت ياباشا.. دعهم يحضرون لي شيئا حلوا) .

Email