استراحة البيان: شحاذ القرن العشرين: يكتبها ــ محمد الخولي

ت + ت - الحجم الطبيعي

الزميل سعيد حمدان كتب في هذه الزاوية مطالبا بنشيد وطني جديد تصلح كلماته ونغماته لكي يترددا على السنة الاطفال والشبيبة يلهجون بذكرهما تحت خفق العلم , وجاءت مطالبة الزميل العزيز لكي توقظ المواجع كما قالت يوما ام كلثوم, او فلنقل لكي تتيح لنا ان نحفر عميقاً في كهف الذكريات حول مسيرة الاناشيد القومية والوطنية وعن سير الرواد الذين حاولوا ان يستكشفوا هذا السبيل من الابداع الادبي والموسيقي في زماننا الحديث. هنالك نعود الى ذكريات ثورة 1919 في مصر العربية الى تلك الانتفاضة التي خفق لها قلب مصر, وفي اطارها خرجت الجموع الى شوارع القاهرة, وحارات المدن الكبرى ودروب القرى ومسالكها تطالب بالاستقلال وبطرد الاحتلال البريطاني من ارض الوطن, وكان قد استطال وجوده الكئيب وقتها نحو 37 عاماً. انتظمت في الحشود كل طبقات الشعب وطوائفه.. شباب وكهول, مسلمون واقباط, نجارون وحدادون ومزارعون وطلاب المدارس العليا والمجاورون من طلبة العلم في رحاب الازهر وتلاميذ الثانويات. تُرى من في هذه الحشود كان يعرف هذا الشاب الذي كان يطالع الناس ويحير المارة من مصريين وحتى انجليز؟ كان يرتدي اسمالا بالية واحيانا يمد طاقيته طلبا لعطايا الضباط الانجليز. لم يكن يعرفه احد وانما عرفه الناس في هيئة المتسول واطلقوا عليه لقب اشهر شحاذ في القرن العشرين. لم يكد يبلغ العشرين من العمر ولكنه كان يلقي وسط الجموع الحاشدة اناشيد وطنية كلماتها بسيطة ومعانيها سائغة والفاظها مثل جمر ملتهب وهو لا يكتفي بالقائها شعرا منظوما.. بل كان صاحبنا المتسول الشاب المجهول يترنم باناشيده بايقاعات موسيقية لا تخطىء نبراتها الاسماع. واذا انقضت ملامح الثورة الشعبية وعاد الطلاب الثائرون الى مدارسهم وآب الموظفون المضربون الى مكاتبهم ودوائرهم وقد تحققت لهم عودة الزعيم سعد زغلول من منفاه في جزيرة مالطا.. لم تعد حكاية الشحاذ صاحب الاناشيد الوطنية سراً مكتوماً, ذاع السر الجميل وعرف الناس ان اسمه احمد خيرت, وانه كان طالبا في مدرسة الزراعة العليا وانه كان يتنكر في شكل شحاذ يتكفف الناس توقيا من بطش الانجليز, وانه آثر ان يستثمر موهبته في التأليف والتلحين لكي يبدع اشعاراً واناشيد تلهب الوجدان الوطني وتحدو وتحفز المسيرات الوطنية الحاشدة التي كانت تنتقل ما بين الازهر الى نادي المدارس العليا الى مقار اللجان الوطنية التي سهرت ايامها على مقاطعة الانجليز وادانة كل من يتصل بعميد الاحتلال في قصر الدوبارة مقر النفوذ البريطاني الكائن على ضفاف النيل. كان الشباب والكهول يرددون ايام الثورة نشيداً يقول: بني النيل هبوا وكونوا يداً وردوا عن النيل كيد العدا وصونوا جلال الفدا بالفدا ولا تحسبوا ما بذلتم سدى وبعدها عرفوا الناس ان مؤلف هذا النشيد وملحنه هو بعينه الفتى احمد خيرت الذي اختطفه الفن والشعر من مهنة الزراعة وفلاحة البساتين. ونحسب ان المخضرمين من ابناء جيلي قد فتحوا اعينهم على اناشيد احمد خيرت التي كانت تزين كتب المحفوظات والاناشيد المدرسية وكانت نوتاتها الموسيقية تملى على معلمينا الذين كانوا يصاحبون اصواتنا الرفيعة الثاقبة وقد جلسوا الى بيانو المدرسة الاسود العتيق يحاولون ان يستنطقوه بعضا من نغم كان بسيطا بقدر ما كان عذبا وجميلاً. هكذا كان احمد خيرت (توفي عام 1964 وهو في الخامسة والستين) رائداً بين الكلمة والاناشيد الوطنية البسيطة وخاصة تلك التي يروض عليها الاطفال السنتهم الغضة وهم عند عتبات مراحل الطلب, ولك ان تعجب متأملاً هذا الرجل الدقيق الحجم وقد استطاع ان يفلت بالوعي الوطني والموهبة العريضة, من اغلال الاشعار الكلاسيكية المذهبة والفخيمة التي يقتصر فهمها والتمتع بها على صفوة المثقفين ومعهم والحق يقال, نفر من المتحذلقين ودمتم. أين هذا كله من بقية ابناء الشعب اولاد المدارس شباب الجامعات الباعة في الشوارع والآنسات المهذبات, خريجات المدرسة السنية او مدرسة الحواتكي للفنون الطرزية ولهم ولهن في مصير الوطن ومقاليده نصيب اي نصيب! بالمناسبة, الآنسات والسيدات فاجأن الامة يوما بمظاهرة تاريخية نظمنها وشهدتها شوارع القاهرة وكانت حدثا لم يسبق له مثيل... ويومها ايضا شمر حافظ ابراهيم عن ساعد الشعر واطلق قصيدة من العيار الثقيل يقول فيها: خرج الغواني يحتججن فرحت أرقب جمعهنه الى اخر ما جادت به نون النسوة من صخور وعراقيل تكبس على انفاس القارئ وتأخذ بخناقه وتجعله يلعن الشعر ويشكو الشعراء في اقرب قسم للشرطة. ولم يفلت من هذه القيود الحديدية كبار الشعراء مثل احمد شوقي او كبار الناظمين مثل عباس العقاد. لقد اعلنت الحكومة المصرية في عام 1921 عن مسابقة لتقديم نشيد وطني ومن عجب ان يتقدم لها كبار المبدعين في ذلك العصر, وكان على رأسهم احمد شوقي الذي جاملوه ولا شك اذ منحوه الجائزة الاولى عن نشيد اعجب به القوم او هكذا هيئ لهم, اذ لا نرى فيه من جانبنا سوى قدر لا يحسد عليه الشاعر العظيم من التهافت والتكلف, ومن عجب ايضا ان يقوم على تلحينه الموسيقار سيد درويش شخصيا ويقول مطلعه: بني مصر مكانكمو تهيا فهيا شيدو للملك هيا الى ان يقول احمد شوقي نقوم على البناية محسنينا ونعهد بالتمام الى بنينا... الخ رغم عبقرية سيد درويش, وبين حكاية (هيا.. واخواتها وحكاية (البناية) التي اوردها شوقي. ورغم ان الدكتور الحفني استاذ الموسيقى الكبير معجب بالنشيد اشد الاعجاب ( في كتابه عن سيد درويش) لدرجة ان خلع صفة الخلود على حكاية (مكانكمو تهيا) لأنه كما يقول الحفني (من تأليف اكبر شاعر في العروبة وتلحين اروع فنان, رغم هذا كله, فلم يعد احد يذكر النشيد ولم يدخل النشيد التاريخ, بل دخل في ذمة التاريخ... راح النشيد في الباي باي كما قال يوما محمد صبحي في احدى مسرحياته. نشيد كلاسيكي واحد استطاع ان يفلت باعجوبة من مصير الاهمال او الاحالة التاريخية الى الاستيداع, والغريب انه لم يكن من تأليف شاعر مطبوع بل من وضع اديب كان له باع طويلة في باب النثر ولم يشتهر عنه شعر له قيمة لا من قريب ولا من بعيد واسمه مصطفى صادق الرافعي. والحاصل ان المسابقة التي اعلنتها وزارة المعارف العمومية وقتها لم يفز فيها العقاد ويومها اعلن الكاتب الكبير الحرب الشعواء الضروس على الوزارة واناشيدها ومسؤوليها, بل وكتب نشيدا معاكسا يتهمها فيه هي ومن يلي امرها بأنهم لا يفهمون في ذرى الفن الرفيع ومعاني الشعر العظيم... وكان النشيد الهجائي الساخر على ما نذكر بعنوان: الى الوراء بانتظام وانسجام... الخ, او ما شابه ذلك, ولم يقل احد لعمنا عباس العقاد انه كاتب كبير وباحث متمكن وسياسي ضليع, ولكن حظه في الشعر مثل حظ محمود السعدني, مثلا في بطولة العالم في الملاكمة, ولم يكن احد يجرؤ على مصارحة العقاد ان دواوينه العديدة المطبوعة لا تحوي الكثير من الشعر المطبوع النفيس او الاصيل, وان شعره اقرب الى المعادلات الرياضية او الى ابتسامة مذيعات التلفزيون! والحق ان عباس العقاد جهد ونجح في تثقيف الناس حول اغراض الشعر الاصيل وحول الوحدة العضوية, للقصيدة وضرورة التعبير الحقيقي عن وجدان وهواجس الشاعر كانسان قبل الانسياق ــ كما حذر العقاد ــ وراء شعر المناسبات والخطابيات لكن العقاد ــ ياولداه ــ عندما اراد ان يضرب المثل ويسوق النموذج العملي على ما يقول, لم تلحق به موهبته في فن القريض الى ما كان يعلمه للناس... ومن ثم حفلت دواوينه بنظرات ثاقبة احيانا... ونفحات رقيقة احيانا واغراض مبتكرة احيانا اخرى... كتب في رثاء كلبه الاثير (بيجو) وكتب عن مشاعر المكوجي الفقير وهو يكوي الثياب الغالية ليلة العيد, وكتب بعض قبسات من الحكمة قد نذكر منها بيتيه اللذين يرفضان المساواة المطلقة العمياء: عدل الموازين ظلم حين ننصبها على المساواة بين الحر والدون ما فرقت كفة الميزان او عدلت بين الحلي واحجار الطواحين مع هذا كله فالنشيد الوطني لا يمكن ان يولد في فراغ... وهذا الفراغ لا يمكن ان تملأه مسابقة تعلن او منافسة تدعو الناس الى التباري في تقديم الاناشيد والتلاحين طمعا في جائزة ينالونها او صلة يفوزون بها. النشيد الوطني يولد في رحم الاحداث القومية الكبرى وسط لهيب الملاحم الوطنية التي تجتازها الامم والشعوب وفيها تعجم اعوادها, وتنصهر معادنها ويصبح النشيد من ثم في كلماته وفي ايقاعاته بلورة تلقائية واصيلة وصادقة لما كان يجيش به وجدان الامة من انفعالات وما كانت تضطرم بين جوانح ابنائها من مشاعر واحاسيس وهذا حديث يطول.

Email