استراحة البيان:الطيور على أشكالها تقع: يكتبها اليوم - مصطفى كمال

ت + ت - الحجم الطبيعي

الحديث عن طه حسين لابد وأن يعود بنا إلى أبي العلاء المعري فقد كان العميد الأديب شديد الإعجاب برهين المحبسين , وينزله من نفسه منزلة يحسده عليها أبوالطيب المتنبي الذي حظي من طه حسين ببعض التقدير لشعره, ولكن بكثير من السخرية لطموحاته وتطلعاته إلى تولي المناصب بحق وبغير حق. ونحن نعرف ان الطيور على أشكالها تقع. ولكن الشكل المشترك بين طه حسين وأبي العلاء المعري لم يكن مجرد فقدان البصر. فقد كان بشار بن برد ــ على سبيل المثال ــ أعمى. ومع ذلك لم يحظ من عميدنا الكبير بكثير من اهتمامه, مع أنه فحل من فحول الشعر العربي. ويذكر عنه الرواة بيتا من الشعر يقولون عنه انه أبلغ ما قيل في مواقع الحرب ومنازل القتال, وهو: كأن مثار النقع فوق رؤوسنا وأسيافنا ليل تهاوت كواكبه فما ان وصل هذا البيت إلى مسامع الخليفة ــ كما يذكر الرواة ــ حتى خلع عمامته وألقى بها على الأرض هاتفا: هذا وصف لم يسبقه إليه شاعر, ولن يدركه أحد بعده.. وأعجب ما فيه ان صاحبه أعمى لا يرى. ويروى عن البحتري أنه قال: تمنيت ان أكون أنا صاحب هذا البيت, وأتنازل عن ديواني كله. إذن, فالعمى لم يكن هو العامل المشترك الذي جمع بين طه حسين وأبي العلاء المعري في اطار من المحبة والإجلال. وان كان بلاشك قد ساهم بقدر. فإن فقدان المرء للبصر يطلق العنان لخياله. لأن رؤية العين على اية حال محدودة بمدى الابصار, أو بما يمكن ان يعترض طريقها من جبال أو أشجار أو بنايات أو ضباب. أما الخيال فهو قادر على تخطي كل ذلك.. وليس له حدود من زمان أو مكان. فلا غرابة اذا رأينا الشاعر ــ أي شاعر ــ يغمض عينيه وهو يصوغ شعره ليستعين بخياله على ما تقصر العين المبصرة عن رؤياه. ولقد كان خيال المعري ــ مثل خيال طه حسين ــ قادرا على السفر, ليس فقط في آفاق الكون, وانما ايضا في أعماق النفس البشرية, مسلحا بنزعة انسانية رفيعة لم تؤثر فيها العاهة, ولم يشبها أي نوع من الحقد على الآخرين الذين أنعم الله عليهم بنعمة البصر. وكان كل منهما معتزا بنفسه شديد الاعتزاز. وما من شك في ان طه حسين كان يرى أبا العلاء معبرا بصدق عن حقيقة ما بنفسه وهو يقول: تجنبت الأنام فلا أوافي وزدت عن العدو فلا أعادي حدث ذات يوم, ان أقيلت الوزارة التي كان يعمل بها طه حسين مستشارا للتربية والتعليم. وقبل ان يغادر مكتبه, دفع بعض صغار النفوس عددا من طلاب المدارس الثانوية للتجمهر تحت نوافذ مكتبه وهم يهتفون (الى الجحيم يا أديب العميان) و(ليسقط المستشار الضرير) . وأصر طه حسين على أن يخرج بنفسه لتطل قامته على الطلاب الاشقياء. فما ان رأوه حتى خرست هتافاتهم. حتى اذا ما هدأ الضجيج قال بصوته الموسيقي العذب: اليوم أحمد الله على نعمة العمى, فقد أعفاني بها من رؤية وجوه أبنائي وقد رسم عليها أعداء الشعب علامات من الكراهية هم منها أبرياء. ومع كل هذا الاتفاق في شخصية الاثنين, فقد كان بينهما خلاف في رد الفعل, ذلك ان طه حسين لم يحبس نفسه في قمقم أو في برج عاجي مثلما فعل المعري, وإنما نزل الى الناس, مفكرا, ومصلحا اجتماعيا ومناضلا صلبا من أجل الفقراء ومدافعا عن المستضعفين, وجعل الخروج بجيله والأجيال التالية من مستنقع الأمية والجهل قضيته الأولى التي وظف من أجلها علمه وأدبه, بل حياته كلها. والأمية عند طه حسين لم تكن الافتقار الى القراءة والكتابة فحسب, وإنما كانت تبلغ أشد صورها ايلاما عندما تتبدى في أمية المثقفين.. وفي هذا كان كتابه عن الشعر الجاهلي طلقة في صدر التخلف الفكري لدى مثقفي عصره هدفها الخروج بجرأة من القيود المفتعلة الدخيلة على الفكر العربي, والتي شوهت الدنيا كما شوهت الدين. غير ان العامل المشترك الأكبر بين طه حسين وأبي العلاء المعري كان النزعة الانسانية المطلقة التي ترقى بصاحبها كي يكون بحق خليفة الله في أرضه. ولا عجب اذا كان الأديب العميد قد رأى نفسه مرة اخرى في صورة المعري وهو يردد: ولو اني حبيت الخلد فردا لما أحببت بالخلد انفرادا فلا هطلت عليّ ولا بأرضي سحائب ليس تنتظم البلادا وقد يبدو هذا السمو الانساني في أصدق معانيه عندما نقارن هذا القول بصورة أخرى مغايرة تماما, يقول فيها صاحبها: اذا مت ظمآنا فلا نزل القطر فبينما نجد أبا العلاء مثل طه حسين يرفض ان يخلد في الأرض ما لم يكن الخلود للناس جميعا, ولا يسعد بنزول الغيث عليه وبأرضه ما لم يصب بنعمته كل البلاد, لا يستثني من ذلك جنسا دون جنس أو عربيا دون أعجمي.. نجد شاعرنا الآخر الذي ولد وفي فمه ملعقة من ذهب وتربى في قصور الملوك والولاة يتمنى الموت عطشا للناس أجمعين ما لم ينله المطر أولا. هذا المعنى نفسه الذي يتمثل في احساس الانسان بأنه جزء لا ينفصل من مجموع البشر, وان أي خير يصيبه لا معنى له ولا مضمون الا اذا كان لكل البشر. وهي المعاني نفسها التي تتردد بقوة وبلغة العصر الحديث في تحفة طه حسين الخالدة.. وهي من أواخر أعماله (المعذبون في الأرض) . وكأنه كان يودع فيها وصيته للمثقفين في الأجيال المقبلة, ان تكون رسالتهم هي الانتصار للمستضعفين والثورة على مستضعفيهم والايمان بالحرية والمساواة بين البشر.. والا فلا أدب ولا فن ولا معنى للحياة.

Email