استعادت اسمها وتحلم بعظمة تاريخها: سانت بيترسبرج ماضيها سفن ومستقبلها سياحة

ت + ت - الحجم الطبيعي

المرأة العجوز عاشت في سانت بيترسبرج طيلة حوالي الثلث من تاريخ المدينة, وكانت حياتها صعبة لكنها, مثل المدينة, تحملت الأمر بطيب خاطر , كانت هناك لتعايش الثورة عندما اقتحم البلشفيك القصر الشتوي واستولوا على الامبراطورية, واليوم يمكن ان يتفرج المرء على المراهقين وهم يتزلجون في الساحة العظيمة أمام ذلك القصر, وهي واحدة من أكثر الساحات تلطخا بالدم في التاريخ. وكانت العجوز هناك خلال حصار الحرب العالمية الثانية عندما طوق الجنود الألمان النازيون المدينة وجوعوا أهلها لتسعمائة يوم, مما أدى إلى موت حوالي مليون شخص, وهي تتذكر الجثث تملأ الشوارع التي تنطلق فيها اليوم سيارات المرسيدس الفخمة التي يستقلها أشخاص هم أشبه بالرعاع يرتدون البذلات السوداء في ذهابهم إلى المطاعم الراقية. لحوالي 90 سنة أقامت فالنتينا فلاديميروفنا بوبر فسكايا في هذه المدينة الأنيقة المعذبة, مدينة دوستويفسكي ونيجبينسكي وبطرس الأكبر والشاب فلاديمير لينين. انها لا تطيق العيش في مكان آخر. وتقول بصوت أجش: (مرة ذهبت إلى موسكو فلم تعجبني كثيرا. كان ذلك قبل الحرب. الناس كانوا أفظاظا, فلم أحب الناس هناك ولذلك لم أحب المدينة, العجائز المرافقات الجالسات على بنكين متقابلين في الحديقة العامة للتشمس يطأطئن رؤوسهن دليلا على الموافقة ويتبين لنا في الآخر ان فالنتينا هي الوحيدة بين العجائز الأربع اللواتي ذهبن إلى موسكو أما الأخريات فلا يعرفن العاصمة. لبرهة تحولت سانت بيترسبرج خلال الصيف المنصرم مسرحا لحدث مهم فقد تم دفن رفات نيقولا الثاني, آخر القياصرة الروس في كاتدرائية بطرس وبولس في المدينة, فتذكر الروس ان المدينة كانت ذات وقت عاصمة لامبراطورية مترامية الأطراف ومكانا انسابت منه كل الطاقات والقوى العظمى لروسيا, ولقد كانت تلك اللحظة تهز المشاعر, ولكنها ذكرت أيضا إلى أي مدى انزلقت المدينة في حياة ما بعد الاتحاد السوفييتي. ان أحد الأعمال التي قام بها البلشفيك بعد ثورة 1917 هو اعادة العاصمة إلى مركزها القديم, موسكو, وانزال سانت بيترسبرج إلى مرتبة المدينة الروسية الثانية, ثابتة من حيث الحجم والأهمية, ان لم يكن في المواقف, ومنذ ذلك الوقت ازداد الشرخ. فبعد انهيار الاتحاد السوفييتي وبنى اقتصاد السوق في روسيا أخذت موسكو تكبر وتتعاظم أكثر. ان موسكو هي المدينة المزدهرة الوحيدة في روسيا, أما سانت بيترسبرج فلا يزال يراودها حلم العظمة, إلا ان تحقيق الحلم يبدو بعيد المنال, في أفضل الأحوال, فمديرو المدينة يحلمون ان تصبح مدينتهم كالعاصمة المالية للبلاد في المستقبل, وهذا خيال غريب بالنظر إلى ان القسم الأكبر من ثروات البلاد تتمركز في موسكو التي قفزت إلى الأمام, فيما بقيت سانت بيترسبرج متثاقلة, وبقي عشرات الألوف من سكانها عاطلين عن العمل, وباءت محاولات بعث الحياة في أحواض السفن ــ الصناعة الكبرى للمدينة ــ بالفشل, وقد تحركت المدينة ببطء لتنمية قطاع السياحة الذي يبدو انه خشبة الخلاص الاقتصادي, وأول محافظ للمدينة بعد المرحلة السوفييتية, الذي كان من أبطال حركة التحرر ــ متهم اليوم بالفساد. ومع ذلك لا يسع المرء ــ عندما يتجول في شوارع المدينة في مساء ليلة صيف ليشاهد الغروب وراء الأقنية والترع والشبان والشابات يتنزهون في البوليفارات على ضفاف نهر نيفا ــ لا يسع المرء إلا ان يحس ان هذه المدينة مجيدة وواحدة من الأماكن النادرة التي ترفع وتشرف سكانها وتترك انطباعا بأن هناك جانبا أفضل للروح الانسانية. ويقول تيمور نوفيكوف الفنان الذي يقود حركة للعودة إلى الطراز الكلاسيكي في الفنون: (ان سانت بيترسبرج هي مدينة كان فيها الفن حيا, ومتأججا, منذ لحظة تأسيسها لم تركد في أي وقت من الأوقات سواء في مرحلة الثورة أو خلال الحرب العالمية الثانية, وفي السنوات الأخيرة لم يؤثر أي من التفاعلات السلبية التي مرت بها المدينة على الثقافة في سانت بيترسبرج, وهذا يعكس رقيها. وحتى خلال المرحلة السوفييتية بقيت الروح القديمة متأججة في سانت بيترسبرج, ورقيها لا يزال ماثلا في هندستها المعمارية ومسارحها ومتاحفها, وبما في ذلك الارميتاج, أحد أعظم المتاحف في العالم, كل ذلك يبقى حيويا, ولكن بطلاء براق جديد أضيف إلى بعض الأماكن, مثل محلات (جوستيني ديور) المتجر القديم الذي يتم تحويله إلى (قاعة تسوق) وهو متحف بقدر ما هو متجر, فهذا المكان يستطيع أبناء ارستقراطية سانت بيترسبرج الجديدة ان يشتروا أحذية شارل جوردان بألفي روبل (330 دولارا) أو معطفا من تصميم صونيا ريكل بما يوازي 1090 دولارا. لكن ثمة شيئا مفقودا هو الزبائن, تقول زويا كوجفيكوفا مديرة مركز التسوق: هذه بداية. المبيعات متواضعة حاليا, ولكنها كافية, ونأمل ان يأتينا زبائن أكثر وأكثر في المستقبل. كوجفيكوفا شقراء هيفاء القد في الثالثة والعشرين من العمر, مواطنة في سانت بيترسبرج وفخورة بذلك, تقول: انني أعشق سانت بيترسبرج وأحب الأشياء الكلاسيكية في الأزياء. اننا مدينة محافظة ــ ربما غير محافظة ولكنها ذكية. أبنيتنا مستقيمة وأنيقة وكلاسيكية. لقد كانت سانت بيترسبرج على الدوام تعتبر أذكى من موسكو التي كانت مجرد سوق كبيرة قبل الثورة , والحقيقة ان موسكو تشبه هذه الأيام مدينة كبيرة خشنة من جديد, أما سانت بيترسبرج فتبقى كلاسيكية وأنيقة ــ وفقيرة. ويبلغ عدد سكان المدينة وضواحيها 6.5 ملايين نسمة أي حوالي ضعف عدد سكان موسكو, وفي السنة الماضية بلغ مجموع حجم المبيعات في سانت بيترسبرج سبعة مليارات دولار, أي أقل ست مرات من حجم المبيعات في موسكو, ويقول جيرمان جريف, نائب محافظة سانت بيترسبرج والمسؤول عن تنمية الأراضي انه من الظلم ان نقارن بين المدينتين, فموسكو تحصل على دعم أكبر بكثير مما تحصل عليه مدينته من الحكومة الفدرالية, فضلا عن ايرادات الضرائب من العديد من الشركات الوطنية والعالمية التي لها مكاتب ومقرات في موسكو. *** إذا كانت السياحة هي مستقبل سانت بيترسبرج فإن بناء السفن يمثل ماضيها, فقد كان بطرس الأكبر يعشق البحر, وهو الذي جعل لروسيا قوة بحرية, وقد بنى هذه المدينة لتكون منفذا لروسيا إلى خليج فنلندا وبحر البلطيق وسخر شعبها لبناء السفن. وقد أسس المدينة سنة 1703 لتكون موقعا في الشمال الأقصى لشن حرب على السويد, ثم حولها إلى عاصمة في العام 1712, ويستطيع المرء ان يشاهد رافعات أحواض بناء السفن في كل الأماكن المرتفعة في المدينة, ومجموعات البحارة الشباب ببذلات البحرية منظر شائع في نيفسكي بروسبيكت, الشارع الرئيسي. إلا ان بناء السفن الحربية ــ القطاع العملاق في المرحلة السوفييتية ــ يواجه صعوبات, فحسب المراجع المختصة لا يزال هناك 55000 ألف عامل يعملون في 55 شركة لبناء السفن في سانت بيترسبرج وليس لديهم عمل, فالبحرية السوفييتية لا تملك المال لتوسيع وتحديث اسطولها والطلبيات الخارجية قليلة, مع ان ثمة تعاقدات لبناء السفن لحساب الصين والهند, ولقد تعاونت النقابات العمالية لدمج صناعة السفن في ثلاث شركات توظف ما مجموعه 15000 عامل على أي يجري تسريح الأربعين ألفا آخرين. ويقول نائب رئيس نقابة عمال أحواض بناء السفن ليونيد فورونتسوف: (لا تهتم بمظهر المدينة وسكانها. الناس يحاولون دائما ان يظهروا اللطف والتفاؤل, خلال الحصار في الحرب العالمية الثانية كان الناس لا يزالون يقيمون الأعراس ويعيشون, والوضع لم يتبدل اليوم. كانت سانت بيترسبرج مدينة حسنة التخطيط صممها أفضل المعماريين الأوروبيين كمدينة جريئة ومدينة امبراطورية راقية في الوقت نفسه ولتكون كمرآة في يد روسيا تعكس ما هو الأفضل في الثقافة الأوروبية. وهذه الصفات البورجوازية هي التي أقنعت البلشفيك للتخلي عنها كعاصمة سنة 1918 والعودة إلى مركز السلطة في موسكو, وقد سماها الصحافي الأمريكي جون ريد الذي كان متعاطفا مع البلشفيك (مدينة اصطناعية) لم تمثل روسيا الحقيقية تمثيلا جيدا, ولاحقا قام الشيوعيون (بتكريم) العاصمة القديمة بتغيير اسمها إلي (ليننجراد) على اسم الزعيم السوفييتي الأول فيلاديمير ايلليتش لينين. واليوم أزيلت كافة المظاهر اللينينية من المدينة, وأعيد لها اسم سانت بيترسبرج سنة 1991 ويبدو انها أخذت تصبح مجددا مدينة العظيمين, بطرس الأكبر, وكاترين. (خدمة أ. ب) سانت بيترسبرج ــ ميتشل لاندسبرج

Email