احتفالا بالذكرى المئوية لرحيله: بيت لوركا الصيفي معد لاستقبال الشاعر الغائب

ت + ت - الحجم الطبيعي

كان الشاعر المعروف فيديريكو جارثيا لوركا يقيم في قريته(فوينتي باكيرو)حتى تعدى مرحلة الطفولة, وبعد انتقاله للدراسة في غرناطة قرر والده أن يكون للأسرة مقر صيفي تنتقل إليه هربا من حرارة مناخ المدينة , كان يقع هذا البيت الصيفي في منطقة ريفية تبعد عن وسط مدينة غرناطة القديمة بعدة كيلو مترات, في قرية صغيرة يطلقون عليها (ويرتا دي سان فينتي) . مع مرور الزمن تحولت هذه القرية إلى جزء من المدينة التي امتدت مثل كل المدن الحديثة لتلتهم القرى المحيطة بها, بما فيها مقر لوركا الصيفي, لكن بلدية المدينة قررت أن تتحول المنطقة المحيطة بالبيت إلى حديقة عامة, وتم الاحتفاظ بالبيت على حاله منذ أن هجرته أسرة الشاعر لتنتقل للحياة في الولايات المتحدة هربا من بطش اليمين الفاشي الذي كان مسؤولا عن اغتيال الشاعر. عندما عادت الديمقراطية إلى اسبانيا عادت أسرة الشاعر لتعيش من جديد في اسبانيا, لكن شقيقته (ايسابيل) الوحيدة التي لا تزال على قيد الحياة قررت أن تعيش ما تبقى لها من أيام العمر ما بين مسقط رأسها والعاصمة مدريد. وعند الاستعداد للاحتفال بالمئوية الأولى لميلاد الشاعر قررت الحكومة الاسبانية تحويل بيت لوركا الصيفي إلى مزار سياحي تضعه الشركات المتخصصة في السياحة على رأس قائمة أولوياتها عند زيارة آثار غرناطة الأثرية, باعتباره متحفا خاصا بالشاعر. ومن أجل تجهيزه لهذا الغرض تبرعت أسرة الشاعر بالبيت, وبكل ما تبقى من متعلقات كانت تخص الشاعر أثناء اقامته في أشهر الصيف التي كان يقضيها هناك. يحيط بالبيت حديقة مخططة بشكل يحافظ على اظهار البيت الصيفي في شكله التقليدي الذي لا يزال يحتفظ بالطابع الأندلسي, وتم تزيين الحديقة بالأشجار قليلة الارتفاع, وتزيينها بالزراعات الأقرب إلى الزراعات الفلاحية, ويطل البيت على المناطق المحيطة به من خلال عدد من النوافذ والبلكونات الواسعة الممتدة (تراس) , التي كانت تستخدم للجلوس للتمتع مع الأصدقاء بالهواء النقي المنعش صيفا. لا تزال في حديقة البيت الصغيرة عدد من الأشجار المعمرة, التي يقال انها موجودة هناك منذ أن كان لوركا يعيش في البيت, أو يأتي لقضاء أشهر الصيف الحارة, ومن بين الأشجار التي تزين مدخل البيت (نخلة وحيدة) تذكر الزائر بتلك النخلة الوحيدة التي استقبلت الأمير الأموي الهارب من دمشق (عبدالرحمن الداخل ــ صقر قريش) عندما هبط وحيدا على شاطئ (المنكب) المعروف الآن باسم (المونييكر) بجنوب غرناطة, تلك النخلة التي كتب فيها شعرا يقارن بينه وحيدا على أرض غريبة, وبين تلك النخلة الوحيدة التي تواجه رياح الشاطئ العاتية وترفض الانحناء. لا يزال بيت لوركا يحتفظ بطابعه القديم كبيت لأسرة تنتمي إلى الطبقة الوسطى في نهايات القرن الماضي وبدايات القرن الحالي, حيث يتكون من طابقين, الأول يحتوي على عدة قاعات لاستقبال الضيوف بشكل منفصل بين النساء والرجال, وحجرة للطعام متصلة بالمطبخ عبر نافذة صغيرة يمكن من خلالها تمرير أطباق الطعام دون أن يرى الجالس إلى المائدة ما يجري داخل المطبخ, كما كانت تقضي العادات والتقاليد الأندلسية التي توارثها الأندلسيون المعاصرون من العرب. في قاعة مجاورة للمدخل الرئيسي يوجد (البيانو) العتيق الذي كان يعزف عليه لوركا مقطوعاته الموسيقية عندما كان تلميذا يدرس الموسيقى, ثم استخدمه بعد ذلك لتأليف مقطوعاته التي كان يؤلفها كموسيقى لمشاهد المسرحيات التي كانت تقدمها فرقته (لا باراكا) , التي كانت تضم عددا من زملاء الدراسة, وتجوب القوى والمدن الاسبانية, لتقدم مسرحياته الشهيرة: (بيت برناردا ألبا) و(أعراس الدم) وغيرها من التراث المسرحي الذي أنجزه خلال سنوات قليلة من عمره القصير الذي لم يتعد الثامنة والثلاثين ليلة قتله غيلة تحت أشعة شمس الصباح الأولى. توجد في الطابق الثاني غرفة نوم لوركا, التي كانت أيضا غرفة عزلته الخاصة التي كان يهرب إليها في أوقات حاجته إلى القراءة المركزة, إلى جوار السرير يوجد مكتب صغير, وتزين الحائط المقابل لوحة ضخمة عبارة عن عجلة تتوسطها الأقنعة المسرحية المعروفة, وهو الرمز الذي اتخذه لوركا لفرقته المسرحية. السرير الذي كان ينام عليه الشاعر خشبي قديم, لا يزال يحتفظ بطابعه التقليدي, مفارشه مصنوعة من الخيوط القطنية البيضاء المشغولة على هيئة شباك رفيعة التطريز, تشبه تماما تلك (الشراشف) التي لا تزال تحتفظ بها بعض البيوت الثرية بالقرى العربية المنعزلة. الجانب المتبقي من الطابق الثاني لبيت لوركا الصيفي, والذي كان يضم غرف الشقيقات والأشقاء أو الضيوف تم تحويله إلى متحف صغير يضم بعض متعلقات الشاعر, منها مخطوطة كتابه الشعري الأخير (ديوان تماريت) , الذي كان قيد الطباعة عندما اغتالت الفاشية الشاعر في فجر مظلم من شهر أغسطس عام ,1938 ولا تزال المخطوطات الأصلية التي كتبها الشاعر بخطه (الرديء) مقابل التصحيحات التي كان يضعها على الصفحات المكتوبة بحروف المطبعة, والقاء نظرة على المخطوطات الأصلية والصفحات المطبوعة يمكن أن يلفت النظر في قصائد الديوان أن الشاعر كان يسميها (قصيدة Kasida) وهي كلمة اسبانية من أصول عربية, لتتحول في الصفحات المطبوعة إلى كلمة (غزالة Gacela) وهي أيضا كلمة متداولة بالاسبانية, مأخوذة مباشرة من اللغة العربية, مما يكشف إلى أي مدى تعلق الشاعر بتراث الأندلس العربي كتراث خاص به. تقوم على إدارة المتحف (لاورا جارثيا لوركا) ابنة شقيقة الشاعر, يعاونها فريق مكون من شخصين للعلاقات العامة واستقبال الضيوف وبيع تذاكر الدخول, ومرشد سياحي (رفائيل ديل بينو) , الذي يرافق الضيوف الذين حددت إدارة المتحف دخولهم في مجموعات لا تزيد المجموعة الواحدة على (خمسة عشر زائرا) , حفاظا على الطابع العائلي للمكان, يحاول المرشد السياحي دائما أن يقدم موجزا وافيا لكل ركن في البيت, سواء من خلال توضيح العلاقة بين المكان وبين الشاعر فيديريكو جارثيا لوركا أو علاقة المكان ببعض أصدقاء الشاعر. شرح المرشد يضفي نوعا من العلاقة الأسرية الحميمة على الزيارة والزائرين من خلال دعوة بعضهم إلى العزف على (البيانو) العتيق, أو قراءة بعض أشعار لوركا التي تضمها الكتب المفتوحة على مكتبه الخاص بغرفة نومه. إذا كان الشاعر فيديريكو جارثيا لوركا تحول إلى ملكية عامة وعالمية لكل عشاق الشعر والمسرح والموسيقى, فإن بيته الصيفي أصبح أحد المعالم الهامة لمدينة غرناطة, ولا يستطيع السائح أن يمر بقصور الحمراء أو حدائق العريف دون أن يعرج على (بيت لوركا الصيفي) الذي يحمل أيضا جزءا من عبق التاريخ الخاص بالمدينة, إنه عبق الشاعر الذي قتلوه سرا عام ,1938 لأن ميلاده كان في لحظة تاريخية عام ,1898 ذلك العام الذي واجهت فيه اسبانيا آخر هزيمة عسكرية لها, فقدت بعدها لقب (الامبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس) , وحياته كانت في تلك الأيام التاريخية التي كانت تحاول فيها الأمة الاسبانية أن تجد مكانها تحت تلك الشمس التي غابت عنها. موت لوركا رغم سريته كان في لحظة تاريخية, لحظة انتصار الفاشية على سلطة الشعب الذي اختار نظاما مختلفا لا يقبله العسكر, قتلوه سرا, لكن هذه السرية كانت سر خلوده في عالم الفن والأدب, وزائرو اسبانيا الآن يبحثون عن روائحه في كل ركن عاش فيه, فيما لا يلفت نظرهم البناء الضخم الذي أقامه الجنرال القاتل بالقرب من العاصمة مدريد ليكون مثواه الأخير, بمرور الزمن أصبح بيت لوركا المتواضع أكثر شموخا من مقبرة فرانكو المرمرية التي نسيها التاريخ.

Email