استراحة البيان: بين الأصل.... والصورة: يكتبها اليوم - محمد الخولي

ت + ت - الحجم الطبيعي

مجلس الانتاج القومي كان اول مؤسسة انشأها جمال عبد الناصر في عام 1953 ليكون مسؤولا عن المشاريع الطموحة التي بشر بها نظامه الجديد في مصر ويؤدي كذلك دور مستودع الافكار التي يطرحها المواطنون . بعضهم كان بحاثة, وبعضهم كان محتالا, وبعضهم كان يحاول صياغة أحلامه على شكل خطط مبتكرة, وبعضهم كان يردد عبارات فيها من الهذيان اكثر ما فيها من كلام العقلاء الراشدين. ذات يوم استأذن للدخول الى مجلس الانتاج رجل متوسط الطول, ابيض البشرة, ازرق العينين وقدم نفسه الى المسؤولين بوصفه مهندسا... وحين سمعوا لكنته الروحية التي ينطق بها العربية اضاف موضحا انه يوناني عاش وعمل في مصر... وأحب ناسها وعشق نيلها وكم راودته احلام من اجلها... وها هو يأتي الى دار الافكار والمشاريع... ومعه حلمه الذي عايشه سنوات طوالاً... وقد سجله في بضع اوراق اودعها حقيبة يفوح منها رائحة الجلد العتيق. كانت الفكرة هي انشاء سد عملاق على مجرى النيل جنوبي اسوان يصلح مستودعا هائلا لمياه النهر العظيم وقد كان الكم الهائل منها يتدفق هدرا ليصب في مياه البحر المتوسط. الفكرة كانت عبقرية, ومثل كل الافكار العبقرية جاءت من البساطة بمكان... وجاءت لتشكل الشرارة الاولى التي انقدح زنادها ليأتي من أواره مشروع السد العالي. اما المهندس اليوناني المتمصر... وهو الاب الشرعي لفكرة السد العالي فكان اسمه (دانينوس) وكان رجلا بسيطا, متواضعا.. قيض لكاتب السطور ان يلقاه وقد وهن العظم منه واشتعل رأسه شيبا... ومازلت اذكر وجهه الوديع وقد جاءني في ربيع عام 1964 متدثراً, رغم الدفء, بمعطف شديد التواضع... وعلى شفتيه بسمة طيبة... فأجريت معه حديثا لاذاعة صوت العرب وسط احتفالات تحويل مجرى النيل وانجاز العمل في أنفاق السد العالي الكبير... واظن ان هذه المقابلة الاذاعية كانت بمثابة الاعتراف الوحيد بسبق الخواجة دانينوس الى التفكير في مشروع سد عال على النيل الاسواني... واحسب ان كان هذا هو التكريم الوحيد ــ البالغ التواضع كما ترى ــ للرجل ولفكرته التي حسبها البعض يوما حلما من الاحلام... ولا ادري ان كانت مكتبة اذاعة القاهرة العتيدة مازالت تحتفظ بهذا التسجيل التاريخي ام ان القوم مازالوا يتصرفون ازاء المعالم التاريخية بمنطق ان البساط احمدي, وان احمد مثل سيد احمد, وقل: يا باسط ... أليس كله عند العرب... صابون؟ وبالتالي قد يكون القوم قد احتاجوا الى شريط يسجلون عليه اغنية شبابية من نوع (كامننا) او تقابله عبقرية مع لاعب كرة يتحدث في الشؤون الدولية او مع واحد من حملة قطار من الالقاب الهمايونية من طراز سيادة الاستاذ الدكتور المهندس الوزير... المحافظ... فلان... والحي عندنا ابقى من الميت. وصاحب النفوذ في عرفنا اهم ممن يستحقون التكريم. وسواء علينا, بقى شريط المقابلة مع المهندس دانينوس, اول من راودته في مصر فكرة السد العالي. وقد كتب عنه من بعد صديقنا الكبير الاستاذ كامل زهيري, ام ان هذا الشريط بقيمته التاريخية قد امتدت اليه ايدي العابثين او السفهاء, فالحاصل ان المرء يجني متعة, اي متعة وهو يصادف, بصورة مباشرة أو غير مباشرة مثل هذه الشخصيات, التاريخية بكل مقر. ولا اكتمك ان عادت الى ذاكرتنا صورة المهندس (دانينوس) ونحن نطالع في مجلة اليسار القاهرية (عدد يونيو 1998) قصة مماثلة لها من حيث الجوهر ان لم يكن من حيث التفاصيل ــ وهي قصة الطبيب السكندري المخضرم الدكتور حمزة البسيوني الذي كان زميلا للقصاص المبهر الدكتور يوسف ادريس في كلية الطب وايضا في معارك الكفاح ضد الاحتلال الانجليزي وعملائه المصريين من طغمة مخابرات العصر الملكي في فاتح الخمسينات وكم كان رائعا ان يحكي الدكتور حمزة ذكرياته في الصيف الماضي, فاذا به بطل رواية, ومن ثم فيلم (لا وقت للحب) الذي كتبه يوسف ادريس واخرجه صلاح أبوسيف وهو من بطولة رشدي أباظة الذي حمل ايضا اسم (حمزة) في الفيلم وكان اسما غريبا على تقاليد الاسماء في السينما المصرية التي تراوحت بين أحمد او محسن وما في حكمهما, دع عنك وحيد الاسم الخالد للمطرب الراحل فريد الاطرش.. لا عجب ان يكتب الدكتور احمد محمد صالح في (اليسار) عن بطولة الدكتور حمزة ــ الحقيقي وليس السينمائي ويختار لها عنوانا رقيقا وموحيا هو : فرسان الزمن الجميل. نعم... اننا نهفو باستمرار الى تفاعل التاريخ مع الواقع, يسعدنا ان تكون شخصيات تاريخنا المعاصر او المعاش بشرا من لحم ودم, لا شخوصا مصنوعة من وهم الاسطورة... اسعدنا مثلا ان نعرف ان اول باحث كتب تعبير اشتراكية ويعني به العدل الاجتماعي كان اسمه مصطفى حسنين المنصوري وقد سبق الى طرح هذا المصطلح في دراسة رائدة ولا شك عام 1915 على نحو ما كشف عنه صديقنا واستاذنا امين عز الدين مؤرخ الحركة العمالية الحديثة... ويومها في عام 1966 نشروا صورة للاستاذ المنصوري شخصيا وكان يعيش في اقليم الفيوم جنوب غرب القاهرة وكان بدوره قد شارف على الثمانين. شدتنا ايضا صورة زوجة رأفت الهجان الالمانية واولاده بعد ان عرفنا بتضحيات الرجل رفعت الجمال من اجل وطنه المصري العربي وتحققنا من انه كان شخصية حقيقية وليست وهما من صنع خيال الروائي الراحل صالح مرسي وهو ما حاولت ان تدعيه اسرائيل. حتى شخصية مصطفى سعيد بطل رواية أديبنا السوداني الكبير الطيب صالح بعنوان (موسم الهجرة الى الشمال) كم اقنعنا زملاؤنا في السودان بانها مستلهمة من قصة حياة, ومغامرات زميل فاضل كان كبيرا للمذيعين ــ على ما نذكر ــ في اذاعة ام درمان وكان والشهادة لله فارع الطول ممشوقا, في سمرته نبالة, وفي عينيه وميض من ذكاء, وحين قرأت نبأ رحيله عن دنيا الاحياء منذ أشهر... قلت يرحمه الله, ويرحم ايضا مصطفى سعيد.

Email