استراحة البيان:رسالة من (رام الله) يكتبها اليوم- محفوظ عبدالرحمن

ت + ت - الحجم الطبيعي

انت لا تعرفني فانا مجرد انسان يعيش في ظل السلطة الفلسطينية استطيع طبعاً ان اكتب عن اسمي ولكن ما اهمية هذا انت لا تعرفني, ولا احد يعرفني , واستطيع ان احكم على كل عملي ولكن ما قيمة هذا على اي حال؟ انا صانع ساعات وهذا عمل قد يدهشك فالساعات تبدو صناعة دقيقة جدا, ونحن شعوب متخلفة ومن المعروف ان الساعات مرتبطة بشعب راق ودقيق هو الشعب السويسري, ولكن صناعة الساعات لا تتطلب ان تكون سويسرياً ولكي تطمئن على انني لا أغالي انا اشتري بعض قطع الغيار الهامة, ثم اصنع منها ساعات جميلة اي إنني اقرب الى الفن من الصناعة. المهم انني شخص مثل اي شخص ولذلك لو عرفتك باسمي ونسبي لما اضاف ذلك لك شيئاً ولما افاد موضوعنا جديداً. واذا كنت ترى في هذا ما يدهش, وان كنت لا ارى فيه ما يدهش ستجد ما يستحق العجب حقاً وهو انني لا اعرفك!! لقد رأيت مقالاتك في (البيان) وتفحصت صورتك المرسومة, وحتى لو لم تكن دقيقة فهي تشي بأنك رجل بائس مثلي, ولذلك فتح قلبي لك, وقررت ان اتعرف بك في هذه الرسالة التي لا اجد من اخاطبه بها سواك, والبؤساء للبائسين! انا يا سيدي (انسان مثالي) وكنت قد كتبت العبارة بطريقة اخرى نقلت (انا يا سيدي مواطن مثالي.. لكنني شطبت كلمة (مواطن) ) , اذ لا اعرف هل يوافق السيد كلينتون والسيدة اولبرايت والسيد نتانياهو والسيد شارون على انني (مواطن) والاسماء لا تشغلني, ولكن اخشى ما اخشاه ان تكون بين اهتمامات هؤلاء السادة الافاضل وان يعملوا من الحبة قبة او قد تكون (قبة) فعلاً وانا لا اعرف. المهم ايثاراً للسلامة شطبت كلمة مواطن, واستبدلتها بكلمة (انسان) ولعلي لا اكون قد اخطأت خطأ اكبر, ولا ادري هل اتجاوز حدودي أم لا, عندما اقترح توزيع قاموس بالتعبيرات التي يجوز لنا نحن الفلسطينيين من رعايا السلطة استخدامها والتي لا يجوز لنا الاقتراب منها, ولا بأس من تعميمه على العرب عامة. واعود الى الموضوع الرئيسي: انا انسان مثالي, لم انضم الى اي تنظيم ارهابي مثل فتح او الجبهة الشعبية او ايلول الخ, ولم اتدرب على السلاح في يوم من الايام, ولم اخرج في مظاهرة تحرق العلم الاسرائيلي او الامريكي. اي انني انسان مثالي ممن يرضى عنهم ممن اتمنى ان يرضوا عني. والغريب انه رغم يقيني من (مثاليتي) الا انه قد انتابني ذعر شديد بعد الاتفاقات الاخيرة, فلقد سرت اشاعات وصلت الى الاعلام من تلفزيون واذاعة الى الصحف, ان اولاد عمومتنا من بني اسرائيل طلبوا تسليم بعض الفلسطينيين, ولانهم اعلنوا اسماءهم, فهذا شيء لا يهمني والحمدلله, لكن قيل انهم طلبوا تسليم ثلاثين فلسطينياً, وفي حدود معلوماتي لم يعلنوا هذه الاسماء. وهذا يا سيدي ما اصابني بالرعب اذ ما يضمن لي ان اسمي ليس بين هذه الاسماء الثلاثين!! ومن يومها يا سيدي والنوم لم يعرف طريقه الى عيني وكلما سمعت صوتاً في الحارة كتمت انفاسي انتظاراً لوصول العسكر باقدامهم الغليظة وطرقاتهم العاتية. انت فلان الفلاني؟ ولن استطيع ان اكتم اسمي عنهم كما كتمته عنك. ويصرخ اولادي, وتصيح بناتي, ويبكي احفادي ولكن العسكر ينتزعونني كما انا, ويضعونني في سيارة بلا نوافذ واحس بالرعب منها انا وحدي. وتنطلق السيارة الى (الحدود) حيث تنتظر سيارة اخرى ويأخذونني من هذه الى تلك, فأرى العلم الفلسطيني على الاولى, والعلم الاسرائيلي على الثانية. وربما وصلت الى حافة الموت خوفاً, ليس فقط لانني اصبحت بين ايدي الاسرائيليين يفعلون بي ما يشاءون, بل لانني احس انني وحيد فالسادة كلينتون واولبرايت وكوهين ونتانياهو وشارون الخ هم ضدي بالتأكيد, ولكن الكارثة هي انه لا يقف الى جواري احد, وفي يقيني انه لن يحتج على اعتقالي وتسليمي شخص واحد, وهذا اهم سبب في رسالتي هذه, فانا اريد ان احتج على اعتقالي وتسليمي حتى قبل ان يحدث هذا, حتى لا تضيع حياتي هدراً دون احتجاج واحد على الاقل. وستقول لي: وما الذي جعلك تتوقع ان تكون بين هؤلاء الثلاثين وانت لم تصنع شيئاً؟ وكيف لي ان اعرف انني لم اصنع شيئاً؟ الم اصنع الساعات؟ والساعة كما لا بد انك تعرف رمز لاشياء كثيرة فهي مثلا رمز للزمن, واذكر رجلا وقوراً قال ذات مرة ان الفيصل بيننا وبين دولة اسرائيل هو الزمن, البعض يرون اسرائيل تعربد في صلف, فيظنون ان المستقبل لها ولكن اسرائيل جزء سرطاني مفروض على المنطقة, ولان المنطقة ضعيفة ومقسمة, فالسرطان يستشري ولكن هذا امر لا يدوم وذات يوم ستزول اسرائيل بحكم التطور, فالزمن حتى ولو لم يكن من اسلحتنا للأسف هو ضد اسرائيل. لحسن الحظ نظرية يا سيدي! حقيقة انت تعرف انني لست صاحب النظرية, واؤكد لك انه لا رأي لي فيها مع أو ضد ولكن من يدري ربما اثبتوا انني عندما كنت اصنع الساعات كان هذا يعني انني اذكّر بنظرية الزمن. ولا تظن يا سيدي وحاشا لله انني اتهم احداً بالتربص بي فلماذا يشغل اي مسؤول نفسه بالاهتمام بي, وانا والحمد لله لا في العير ولا في النفير. وانا لا اعرف كيف ستهتم يا سيدي برسالتي, ولو انني اطلقت لخيالي العنان, وخيالي والحمد لله في سعة الارض كلها, لقلت ان الامر لا يتجاوز واحدة من ثلاثة: ان تحول الرسالة الى مسؤول ليحاسبني او ربما ليدافع عني, او تلقي, بالرسالة في سلة المهملات, وهذا اقرب الى تصديقي او ان تنشرها, وهذا ما لا اظنه ولكن لو تحقق الاحتمال الاخير ارجو منك الا تنشر الجزء التالي فلقد قررت ان اعترف من دون العالمين بما يرعبني. انا يا سيدي لم اقتل اسرائيلياً ولم اخطف طائرة ولم الق حجراً, ولم اخرج في مظاهرة, ولم احرق علماً. هذا مؤكد. حقاً ان هذا لم يحقق لي الطمأنينة ابداً. فلقد اكتشفت ان ولادتك في اي بلد فلسطيني يساوي في الدنيا كل الجرائم التي ذكرتها. ورغم كل هذا اهمس لك انني ذات مرة عندما عرفت ان ليلى خالد خطفت طائرة, قفزت من الفرح, وتمنيت لو انني تحولت الى سجاد احمر تسير عليه بقدميها, ولكن لحسن الحظ كان هذا مجرد احساس عابر ومضى. وفي بعض العمليات الفدائية كنت احس بالغيرة عمن فعلوها, وكنت اقيم لهم بيني وبين نفسي احتفال المغتبط. ولكن الكارثة الكبرى التي ارجو ان تعتبرها سري الاكبر, وتكتمها حتى عن اقرب الناس اليك, انه عندما انتابني الارق, وكان ذلك منذ وقت طويل جداً. كنت اتحايل على النوم بأحلام اليقظة. وكانت احلاما قليلة العدد منها والعياذ بالله حلم قتل بن جوريون ثم شامير ثم نتانياهو. حقاً انني ضد القتل وانني ادنت اغتيال رابين لكن حلم اليقظة امر آخر. ولقد عربدت احلام اليقظة فخرجت في تظاهرات, والقيت احجاراً, وشجبت مواقف لكنني والله العظيم انسان مثالي, لم تخرج احلامي الى حيز التنفيذ ابداً, بل لم اهمس بها الى اقرب المقربين الي, ولا اقولها لك الآن الا لكي اثبت لك براءتي من اية تهمة. واذا قالوا لك انني كنت احلم احلام يقظة شريرة, طمئنهم انها كانت مجرد احلام يقظة, وانني نادم عليها اشد الندم, وانوي بمناسبة الاتفاقيات الاخيرة, ان اروض نفسي على النوم بدون احلام يقظة, او تحمل الارق, فما المانع ان يعيش الانسان بأرق, ولقد كان مصدر فخر للمتنبي عندما قال:(ارق على ارق ومثلي يأرق) . ولكنني لست مثل المتنبي فلقد قال احدهم ذات مرة امامي المتنبي كان مؤمناً بالقومية العربية, اما انا فلا اؤمن بشيء, ومستعد للموافقة على كل شيء حتى على السلطة الفلسطينية. فهل تسألهم يا سيدي هل انا من الثلاثين المطلوب تسليمهم وارجو سرعة الاجابة اذ اخشى ان تصل بعد موتي رعباً.

Email