استراحة البيان: ليس بالشعارات وحدها: يكتبها اليوم- محمد الخولي

ت + ت - الحجم الطبيعي

قال عمنا الكبير المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي: وسمع عسكر البر الشرقي القتال وضج العامة والغوغاء من الرعية واخلاط الناس بالصياح ورفع الاصوات يقولون يارب ويالطيف ويا رجال الله ونحو ذلك وكأنهم يقاتلون ويحاربون بصياحهم وجلبتهم فكان العقلاء من الناس يصرخون عليهم ويأمرونهم بترك ذلك ويقولون لهم ان الرسول والصحابه والمجاهدين انما كانوا يقاتلون بالسيف والحراب.. لابرفع الاصوات والصراخ والنباح فلا يستمعون ولا يرجعون عما هم فيه ومن.. يقرأ ومن يسمع..؟ وهكذا كانت رواية الجبرتي ورؤيتة في غمار المواجهة التي احتدمت بين المماليك من حكام مصر ومعهم اخلاطها وغوغاؤها, ورش ساري عسكر الفرنسيس نابليون بونابرته, الذي جاء مدججا باسلحة نظام عالمي كان جديدا في عصره- غروب القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر. وانت تطالع مستمتعا, سطور مؤرخنا الازهري العتيد فاذا بنفس الاسلوب يتكرر في كل عركة وكل موقعه اشتعل اوارها بين المماليك والفرنسيين القادمين من وراء البحر المحيط يحشد بونابرت عسكره ومدافعه وقنابره (قذائفه) ولايكاد يحشد المماليك سوى خيولهم المطهمة وسيوفهم اللوامع ومن خلفهم ارباب الاشاير والطرق الصوفية وصبية الكتاتيب يقرأون البخاري ويرددون ادعية يالطيف يالطيف او ياخفى الالطاف نجنا مما نخاف ولقد يعمد العقلاء الى تذكير هؤلاء القاعدين بشجاعة النبي ونضال صحابتة لكن من يقرأ ومن يسمع على حد تعبير الجبرتي.. لقد اختار اهل المرحلة ان يعيشوا بالشعارات وكان الشعار هو دعاء الصبية وقراءة كتاب انفق فيه صاحبه (البخاري) عشرين عاما من السهر والبحث العلمي لكي يتمه ويخرجه للناس حفزا للقراءة والعلم وليس وسيلة للدعاء فيما كانت مدافع الفرنساوية تحصد البشر على ضفاف النيل عند امبابة فيما اصبح يعرف في حوليات نابليون باسم معركة الاهرام. والسؤال هو هل نحن حقا امة تعيش بالشعارات؟ وربما كان الجواب هو نعم.. (نحن بلد شعارات) على وزن مقولة دسوقي افندي كاتب المحامي الطموح الغلبان وقد لعب دوره عادل امام عند بواكير تألقه في مسرحية (انا وهو وهي) بطولة الكوميديان الاستاذ فؤاد المهندس ـ ومن يومها اشتهرت عبارة دسوقي افندي (بلد.. بتاعة شهادات) . والشعار في حد ذاته ليس عيبا ـ بل هو اقرب الى تلخيص مواقف الناس واتجاهات المجتمع في مرحلة ومن ثم اختزال هذا كله في عبارة سهلة الحفظ سائغة الترديد. الا ترى مثلا الى ان الشعار الذي اشتهر وذاع بعد رحيل الفرنسيس عن مصر وسجلته ايضا سطور الجبرتي الواعية اللماحة هو: (ايش تأخذ من تفليسي يا برديسي؟) , وهو خطاب شعبي ما ابلغ دلالته موجه من جموع الناس الى حاكم القاهرة مع بداية القرن الماضي وكان اسمه البرديسي, وقد كادت ارواحهم تزهق من وقر المكوس وفداحة الضرائب, وماذا تأخذ الريح من البلاط سوى اللاشيء وقلة القيمة. واذ اوغل القرن الماضي في مسير الزمن, طلع حاكم اخر هو الخديوي اسماعيل بشعاره المعروف: (سأجعل مصر قطعة من اوروبا) . ولقد حاول الرجل والشهادة لله ـ مدارس فتح, وحدائق حيوان انشأ.. وشوارع وطرقات شق وعبّد ومهد, وقصورا منيفة بنى وعمّر, ودار اوبرا عصرية شيّد لتصدح منها انغام (الاسطى الطلياني فيردي) كما جاء في حفل الافتتاح.. لكن السحر ما لبث ان انقلب على الساحر.. فلم يكن اسماعيل يدري ان المسألة ليست في سهولة ان يستورد معالم اوروبا لكي يزرعها في مصر, بل المسألة اعقد واصعب لانها ترتبط بالتطور الحضاري واصالة الرقي المعرفي والازدهار الثقافي الذي تنبت بذوره من باطن (تربة الاوطان) والذي حدث ان تحول شعاره الاثير نجعل مصر قطعة من براثن اوروبا, او بالادق لقمة سائغة في فمها بعد ان احتلها الانجليز على مدار سنوات سبعين هي التي اثمرت بدورها الشعار الاحدث الذي تفتحت عليه عيون الاجيال الماضية طيلة النصف الاول من هذا القرن العشرين شعاره (الاستقلال التام او الموت الزؤام) , ولك ان تلاحظ براعتنا في سبك الشعار وتزويقه بديكورات السجع والجناس والطباق حتى ليصل بنا امر البلاغة الى حد العبث السياسي حين يرفع قائلنا في وادي النيل شعارا طريفا من قبيل: مصر والسودان لنا (مقبولة!) وانجلترا. ان امكنا (شوف الحماقة) او يقول قائلنا في شعار ردده ابناء الشام الميامين وهم تحت سطوة الانتداب الفرنسي منذ عشرينات القرن: باريز.. مربط خيلنا (وهكذا عبرت افراسنا العروبية ريم البحر المتوسط واتخذت لنفسها حظائر واوتادا في شارع الشانزليزيه) والغريب ان الشعارات مثل البشر ذات حظوظ متباينة والمخضرمون في مصر يذكرون ولا شك شعار (الاتحاد والنظام والعمل) الذي رفعه الرئيس محمد نجيب وهو اول اسم عرفه الناس في قيادة ثورة يوليه 1952. وقد حرص محمد نجيب على ترديده في كل مناسبة وبادر الموسيقار مدحت عاصم الى تأليف وتلحين نشيد من الشعر الركيك, والشهادة لله يردد هذا الشعار على لسان المطربة القديرة ليلى مراد وبعدها اصبح مقررا على اسماع الناس وابصارهم في الراديو في دور السينما وظل الناس.. والصحف والاعلاميون والرئيس نجيب ايضا يعيدون ويزيدون في حكاية الاتحاد والنظام والعمل دون ان يعنى احد بشرحها او تعميقها الى ان تبخرت من الذاكرة المعاصرة بانتهاء دور محمد نجيب السياسي, وبعدها جاء دور الوعي القومي الذي تبلور في شعارات مستجدة واكبت الصحوة العربية التي انتفضت بها الحياة العربية من منتصف الخمسينات, وخاصة بعد معارك السويس ولخصها في بلاغة نشيد الشاعر الكبير سليمان العيسى: من المحيط الهادر الى الخليج الثائر.. لبيك عبدالناصر. وكان قد سبق الى هذا الوعي العروبي الشعار البعثي العتيد الذي شهدته اواخر الاربعينات: امة عربية واحدة.. ذات رسالة خالدة. ولقد نقف قرب نهاية هذه السطور عند ثلاث محطات شعاراتية ـ ان جاز التعبير: ** الاولى اشهر شعار ما زال يعيش ويتنفس حتى ايامنا وقد سبقت اليه منظمة الشباب في العهد الناصري وهو: (بالروح بالدم نفديك يا (فلان) ) . ولك ان تضيف بالطبع اسم السيد المفضال الموقر المطلوب افتداؤه بالروح وبالدم. واذا كان الوزن الاصلي للشعار هو بالطبع (ياجمال) فان الحفاظ على ايقاع الشعار العتيد من مغبة النشاز او الانكسار ما زال يحتم ان يكون الاسم المضاف على وزن يا فلان.. مع شيء من التعديل حسب اسم السيد المشار اليه سواء كان حاكم بلد او محافظ او رئيس مؤسسة او اي متنفذ يعطي مرتبات او ينزل عقوبات.. ولذلك فربما يكون من المطلوب باستمرار الا يتخذ هذا الشخص اسما يستعصي على الايقاع وينبو في تركيبه عن الوزن الشعري الدقيق.. وعلى المعنيين بمثل هذا الامر ان يتحاشوا اسماء من قبيل بسطويسي, او عبدالمهيمن, او ولد خونا الموريتاني الذي زار اسرائيل في الاونة الاخيرة للاسف الشديد. المحطة الثانية هي الشعار الذي صكه عبدالناصر شخصيا وسط محنة انكسار يونيو وقد صاغه من واقع نزف المحنة وهو: (ان ما اخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة) . وهو ـ فضلا عن واقعيته.. ما زالت له مصداقيته حتى كتابة هذه السطور ولو كره اصحاب كوبنهاجن واشياعهم واذنابهم ـ فقط نتصور ان يضاف اليه ـ من باب الاحتياط ـ عبارة (وان طال الزمن) . المحطة الاخيرة هي حكاية قصيرة مؤداها اننا فوجئنا يوما بنشيد جديد يذاع على شاشة تلفاز القاهرة وتردد مجموعة الكورس في مطلعه في كلمات تقول: ـ جيم وميم والف ولام اجمل حروف الكلام..! هكذا بغير حياء.. اختاروا ان يجعلوا من اسم الزعيم اجمل حروف الكلام.. واذكر ان كنا ايامها شبابا نعالج على الضنى جراحات نكسة يونيو, ورغم ان اذاعة النشيد من التلفاز الرسمي كان معناها بداهة انه مجاز رقابيا وسياسيا ووزاريا واداريا.. الخ. فقد عمدنا في حلقة التنظيم السياسي ـ الطليعي التابعة لوزارة الاعلام, الى ادانة هذا النمط من النفاق الرخيص السخيف المتهافت. واذكر ان كتبنا بذلك تقريرا اصررنا فيه ان يرفع الى قائد التنظيم مباشرة وطلبنا باسرار ان نوافى بالرد. وكان بيننا من يتصور ان المسألة قد لا تمر على خير, وان هناك من المنافقين وحملة القماقم من يزايد امام المراجع العليا ومن يلجأ الى تشويه المواقف والطعن في النوايا. وجاءنا الرد من عبدالناصر على شكل تعليمات صريحة وقاطعة. بمنع اذاعة النشيد لقد نسيه الناس. ولم اعد اذكر اسم مؤلفه الذي هداه, او ضلله شيطانه الشعري الى مثل هذا الكلام الخائب لكن لا يكاد يخالجني شك في ان هذه النوعية من البشر هي التي اوسعت جمال ذاته وهو بين يدي خالقه افتراء وطعنا وتشكيكا وذما ورميا بكل نقيصة يتصورها انسان.. اولئك هم المنافقون الذين صادف واحد منهم امير المؤمنين عليا بن ابي طالب وقبل ان يسترسل المنافق في ترديد معزوفة الملق الرخيص بادره الامام رضي الله عنه بقوله: ـ اقصر يا رجل.. انا ادنى مما تقول, ولكني اكبر مما في نفسك.

Email