استراحة البيان:( ... إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ...)يكتبها اليوم - مصطفى كمال

ت + ت - الحجم الطبيعي

الناس معادن. هكذا علمنا أجدادنا وهكذا اكدت لنا تجارب الحياة. النادر منهم كالذهب والكثرة منهم كالتراب .. وبعض الفلاسفة وعلماء الاجتماع يقولون اننا كلنا نولد ذهبا, ولكن الظروف وحدها هي التي تحيل الذهب إلى تراب .. وكم كنت أمنتى أن التقي بأحد أولئك الفلاسفة الطيبين ليفسر لي, كيف أن انسانا ما, ذهبا كان أو ترابا أو حتي بقايا من غسيل البرك, يسمح لنفسه أن يختلق من العدم فرية هائلة الوقع ضد انسان آخر ربما لايعرفه, ولا يحل له ضغينة ولا منافسة بينهما على مال أو منصب أو صفقة أو مشروع زواج, فإذا بضحيته يصبح بسبب هذه الفرية محتقرا في المجتمع منبوذ من أهل وجيرنه, موصوما متهمة هو بريء منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب ..؟ طبعا هذا الكلام له حكاية والحكاية وما فيها أني أقيم بالطابق الثالث من بناية شاهقة الارتفاع, وفي الطابق الخامس يقيم جار فاضل أو هذا هو المفروض, ومع اننا لسنا صديقين بالمعنى المعروف عن الصداقة الا اننا اعتدنا أن نتبادل التحية بأدب كلما التقينا مصادفة بالمصعد, هبوطا أو صعوداً, أو في الطريق القصير الى المسجد المجاور, ولعلنا أحيانا نتبادل كلمات لا معنى لها عن الجو الحار كلهيب النار, أو البارد كثلوج سيبريا, ثم يمضي كل منا الى حال سبيله, ويا دار ما دخلك شر. وفي الطابع التاسع من نفس البناية يقع مقر شركة استيراد وتصدير, يديرها رجل وقور أشيب, ربما تجاوز الستين قليل الاختلاط بسائر السكان, وتكاد تلمس منه أنه يعتذر لوجود شركة - كمكان عام - وكأنها جسم غريب وسط هذا الحشد من العائلات المقيمة بالبناية. حتى كان ذات يوم, وإذا بسكان البناية لا حديث لهم الا قصة كان شاهدها جارنا الفاضل المقيم بالطابق الخامس, وقد حكاها لي بنفسه اثر عودتي من أجازة قصيرة, قال انه ذات قبل الغروب, استوقف المصعد وقعت عيناه على الرجل الوقور صاحب شركة الاستيراد والتصدير يحتضن سكرتيرته و(يكاد يعتصرها عصرا) على حد رواية صاحبنا, والاثنان غارقان في قبلة ساخنة دونها قبلات السينما الامريكية حتى انهما لم ينتبها الى ان المصعد قد توقف, وان الباب قد فتح ليدخل منه (عزول) .. هو جارنا الفاضل صاحب الرواية. ويستكمل صاحبنا قصته فيقول ان الفتاة الحسناء - وهو بالمناسبة لاينسى الافاضة في وصف حسنها, وفستانها المكشوف - كانت هي الأسبق الى اكتشاف وجوده, فانتزعت نفسها من أحضان جناب المدير, دخل الاثنان مطرقين برأسيهما الى الأرض من فرط الخجل, حتى وصل المصعد الى الطابق الأرضي فانفلت منه صاحبنا على عجل, وهو يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم, دون أن يلتفت خلفه حتى لا يزيد من حرج العاشقين. إلى هنا, وتنتهي قصة صاحبنا المقيم بالطابق الخامس كما حكاها لي ونحن في طريقنا للمسجد حينما التقنيا لأول مرة بعد عودتي من الاجازة. عدر في طريقه للنزول فإذا به عندما فتح الباب يفاجأ بمنظر جعل شعر رأسه يقف من هول ما رآه .. واعترف انني في البداية وجدت بعض المتعة في الاستماع اليه, وأن صورة الرئيس البلاي بوي الأمريكاني ظلت لفترة تراودني مختلطة بصورة جارنا صاحب شركة الاستيراد والتصدير, ولم يخطر ببالي أن صاحبنا قد اختلق القصة من العدم, فليس هناك أي مبرر لمثل هذا الاختلاق, ثم انه فيما اعلم ليس مؤلفا روائيا حتى نعترض انه يتخيل أشياء ووقائع لا أساس لها لكي يجعلها موضوعات لروايته القادمة. غير أني عندما خلوت الى نفسي فيما بعد, ورحت أستعيد تفاصيل الفضيحة كما يحكيها صاحبنا المقيم بالطابق الخامس, توصلت الى نتيجة منطقية تماما, تلك هي ان هذه القصة لايمكن أن تكون صادقة, وذلك لسبب بسيط جدا, لا أدري كيف لم يخطر ببال صاحبنا وهو بسبيل تأليفها, أو تلفيقها .. ذلك أنه لايوجد أي مبرر يجبر جناب المدير على اختيار مصعد البناية ليكون مكانة المختار لاحتضان سكرتيرته (وعصرها عصرا) كما يقول صاحب الرواية .. بينما الفرصة أمامه مفتوحة وواسعة باتساع أبواب جهنم للاثمين للاختلاء بالسكرتيرة الحسناء طول النهار وربما لأجزاء من الليل في داخل مكتبه, وراء جدار مغلق من الداخل, أو موصد بلمبة حمراء تحول دون أي تدخل مفاجئ من جانب المتطفلين. ما الذي يضطر المدير العام الى اللجوء للمصعد, وهو كما نرى ليس مصعدا خاصا وانما هو خدمة عاملة لأكثر من ستين أسرة, والمسافة بين الطابق التاسع والأرض لا تزيد على دقيقة, أو قل دقيقتين على الأكثر, من الممكن جدا أن يتوقف المصعد خلالها لدى كل طابق, لينفخ الباب عن عزول أو أكثر يفسد على العاشقين لقاءهما السريع؟ ومع هذا التساؤل, انهارت مصداقية رواية جارنا المقيم بالطابق الخامس, ولم يعد ثمة مجال لتصديقها, ثم تبددت الاشاعة تماما عندما اكتشفنا ان السكرتيرة الحسناء انما هي ابنة مدير الشركة ذاته. ولكن بقي سؤالان .... الأول, لماذا اختلق صاحبنا أصلاً هذه القصة التي سببت لبطلها المزعوم كل هذا الحجم من احتقار وذم الآخرين لفترة طالت عدة أسابيع؟ توجهت بالسؤال إلى صديق لي من علماء النفس فأفتى بأن الأصل في الرواية الكاذبة هو أن راويها يريد أن يكون محل اهتمام من المستمع, أو المستمعين, وأن هذا ضرب من النرجسية التي يختفي معها الاحساس بمدى الأذى الذي يمكن أن ينال سمعة الغير ... نتيجة القصة المختلفة. وفي معظم الاحيان, فان مؤلفي هذه القصص ذات الطابع الجنسي يعانون عادة من مركب نقص في هذا المجال, ويجدون في امثال هذه القصص بعض التعويض. ويمكن ان يضاف الى هذا وذاك سبب ثالث, هو رغبة خفية في اعماق اللاشعور لدى جارنا المقيم بالطابق الخامس ... يتمنى معها لو كان في مكان مدير الشركة ... لديه مثل هذه السكرتيرة الحسناء, حتى يتاح له ان يختلي بها ... حتى ولو كان ذلك لثانية او ثانيتين بمصعد البناية. اما السؤال الثاني, ولعله اكثر حرارة, ولم اجد اجابة له لدى علماء النفس فهو: كيف صدق الناس هذه الزية ببساطة مع انها لا يمكن ان تستقيم مع اي منطق او تأويل. ربما كان الجواب الصحيح, ان اكثر القوم لايعملون بقوله تعالى: (يا ايها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ... ) والمقصود بالتبين هنا, ان نلتمس بينة على صحة النبأ, فاذا لم تكن هناك بينة, واذا تبين ان النبأ اصلا لايتفق مع العقل لا يستقيم له منطق ... كمنا بعدم صحته ... وبفسق الذين جاءوا به .. وكان الله في عون جناب المدير ... حتى ينجو من ازدراء لايستحقه.

Email