استراحة البيان: شموع فلسطين في شوارع برلين: يكتبها اليوم- محفوظ عبد الرحمن

ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما توقفت عند خانة (سبب الزيارة) لم اعرف ما اكتب.. منذ وقت طويل عرفت ان قول الحقيقة آمن في الدنيا والآخرة. ولكن هل من الممكن ان اكتب: سبب زيارة المانيا هو القيام بمظاهرة ضد اسرائيل ؟! اية دولة هذه التي توافق على ان يأتي اجانب ليقوموا بمظاهرة والكلمة كما نعرف لها رصيد سيء في كل بلاد العالم. وتذكرت المظاهرات التي كنت اشارك فيها وانا مازلت البس البنطلون (الشورت) ومظاهرات الجامعة, وماكان يتبعها من ليال قضيتها في مخافر الشرطة. ولكن ها نحن وقد كبرنا وماعادت العظام تحتمل قسوة ارض الحبس. وأين؟ في بلاد الالمان. ولكن هل تستطيع ان تمنع انسانا من البهجة اذا اتيحت له الفرصة ان يتظاهر من اجل القضية التي عاش لها منذ الطفولة وفي قلب اوروبا؟! وهكذا امتزج القلق بالسعادة. ولم يخفف من قلقي وجود السيدة امل محمود, فلقد كنت اعرف مدى شراستها في المظاهرات ومايشابهها. واوصتني احدى بناتها بها فقلت بصدق: بل أوصي امك بي. ولكن الذي عاملني كما لوكان مسؤولا عني هو المهندس ماهر مخلوف وهو صديق قديم دخل كلية الهندسة فحصل على بكالوريوس في السياسة, ايضا كان هناك محمد اسماعيل وفايز غالي وايمان فوزي وخالد صلاح. وفي نهاية القائمة آنئذ كانت ماجدة سعيد فلقد كانت بالنسبة لي السيدة التي تتولى اجراءات السفر. وحتى عندما قيل لي انها شاعرة لم اكترث كثيراً , أولا لان نصف اهل الارض يكتبون الشعر وثانيا لانني لا احب من الشعر الا اجمله. ولكن الامور تغيرت تماما في ختام الرحلة, فلقد القت ماجدة سعيد بعض القصائد في احدى الكنائس تكشفت عن موهبة في الكتابة وفي الالقاء. وعندما وصلنا الى برلين بعد رحلة اقسى من رحلة عنترة بن شداد الى ارض العراق طلبا للنوق الحمر مهراً لعبلة بنت مالك, وجدنا فتحية العسال التي حرصت على ان تسبق الجميع لتنظم الامور لكنها بالطبع لم تستطع تنظيم شيء, فالفوضى العرابوية اقوى من ستين منطق. واخذوا يتحدثون عن (الوفد المصري) ولانني قومي بدأت اسأل عن الوفود الاخرى, لاكتشف انه لا يوجد سوى وفد واحد هو الوفد المصري, فلقد نسي المسؤولون عن المظاهرة دعوة اية وفود اخرى. وحتى فوزية رشيد الكاتبة البحرينية المتميزة انضوت تحت الوفد المصري. لكن البعض كانوا يؤكدون انها تمثل البحرين حتى يكون هناك اكثر من وفد! وهكذا اصبح هناك وفد وفوزية رشيد! ولا ادري هل قرأت روايتها (تحولات الفارس الغريب في البلاد العاربة) وأود ان احدثك عنها. ولكنها تستحق حديثاً خاصا عنها, قد يكون مكانه استراحة البيان. وبدأت اتعرف على البرنامج منذ الليلة الاولى, فإذا بمتحدث يخطف الميكرفون لثلاث ساعات يبدأها بالحديث عن (أوسلو) وكيف انها اتفاقية هزيلة, وانه عارضها معارضة شديدة وقالها في وجه (ابو عمار) لكنه بعد فترة فكر ورأى انها اذا كانت تحقق من الاماني القومية خمسة بالمائة, فهذا يكفي كبداية واننا بالدم والعرق والدموع كما قال تشرشل اثناء الحرب العالمية الثانية نستطيع رفع نسبة الخمسة بالمائة الى مائة بالمائة. وكنت قد زرت برلين عدة مرات, ولكن ها انا لأول مرة اقابل العرب الذين يعيشون هناك وأرى ما فعلته به الغربة بالسلب والايجاب. لكنني اريد ان احدثك عن الابطال الحقيقيين وراء ماحدث مثل الدكتورة عفاف محسن وزوجها خليل وغيرهما من الذين قدموا الكثير في تواضع شديد. وفوجئت بانه بين العرب الذين يعيشون في برلين الدكتور مصطفى هيكل. ذات ليلة في مدينة صغيرة من مدن الصعيد هي (بني مزار) جلسنا نسمع الى احد صغار الموظفين الآتين من القاهرة يتحدث عن مصطفى هيكل وافكاره ومواقفه. وكان ذلك في بداية الخمسينات وكنا آنئذ طلابا صغارا. وظللت لسنوات اسمع اخبار مصطفى هيكل. ثم عرفت انه خرج الى المانيا بعد ان ضاقت به الظروف السياسية. وانقطعت اخباره. ولكن ما ان رأيته حتى عادت الذكريات. وقابلته لاول مرة, رغم انني اعرفه منذ اكثر من اربعين عاما. وفي ختام زيارتنا لبرلين قدم لي الدكتور مصطفى هيكل كتاباً صغيراً من تأليفه بعنوان (برديات) لعله وان كان نثراً اشبه برباعيات صلاح جاهين. وكان الكتاب الصغير بلا اهداء فلقد اهداه الكاتب الى زوجته. وربما كان هذا شيئا تقليديا عند بعض الكتاب ولكن يعنيني المغزى العام فيما قاله: الى زوجتي.. التي رفعت معي الانقاض.. وبنت معي البيت.. وجملته بالورود. واتساءل عن (الانقاض) التي قصدها ولا ادري كيف القي عليه سؤالي, فاطلب منه ان يكتب لي ملخصا لسيرة حياته فيؤكد مبتسماً انه سيفعل ولا اظنه يفعل! وكان بين الوفد الماركسيون والناصريون ومن مثلوا كل الاتجاهات. وكان ينقصنا ايمن نور ممثلا لحزب الوفد. وايضا كانت اول مرة ارى فيها ايمن نور, رغم متابعتي له. وكان وجها مشرفاً في هذه المشاركة. وجاءت معه على نفس الطائرة الفنانة عزة بلبع, التي تابعتها منذ ان بدأت تشارك الشيخ امام الغناء. ومع ذلك لم اكن ــ ايضا ـ قد التقيت بها. ولقد غنت عزة للقدس في كنيسة برلين مايمكن ان يكون له صدى مدى الزمن. وكانت الندوة في تلك الليلة غريبة جداً. متحدث آخر بدأ يهاجم اوسلو كسابقة ويلعنها, ويقول انه من معارضيها, وانه قالها في وجه(ابو عمار) ومسكين وجه (ابو عمار) كم يتحمل من صراخ. لكنه اكتشف انها بداية ... لآخر ما قاله المتحدث الاول. ياجماعة ما بكم: لقد اتينا الى برلين لنتظاهر ضد الكيان الصهيوني الذي احتل ارضاً عربية, واقام دولة عنصرية ارهابية. واثناء ذلك صنع بمهارة شديدة الاسطورة التي اعجبت الغرب, خاصة واننا لم نعرف ابدا كيف نخاطبه. وقلنا ــ وليتنا لسنا مخطئين ـ انه ربما بحضورنا نبعث برسالة حضارية نعبر بها عن احتجاجنا. لم يخطر على بالنا اننا جئنا لنسمع مآثر أوسلو.. فالرحلة ليست كوميدية. فاوسلو ــ والعياذ بالله ــ عروس صلعاء جرباء خنفاء حمقاء واختر من المعجم ما تشاء من الكلمات بنفس القافية او بأية قافية تعجبك. واخيرا جاءت اللحظة الموعودة خرجنا من مكان ما لا اتذكره الان. واعدت بصري واحسست بالتفاؤل. فها نحن بضع مئات ولكن ما ان بدأت المسيرة حتى صرنا بضعة آلاف. كانت الساعة الحادية عشرة مساء, والالاف يحملون شموعا مضاءة ورغم الصمت الا ان هؤلاء جميعا كانوا يعلنون غضبهم على اسرائيل, كان شيئا مهيبا جليلا وسالت الدموع تأثرا. وانتهت المسيرة عند حائط برلين وعندئذ ظهرت العيوب العرباوية الشهيرة, يهتف هؤلاء بهتافات لم تعجب اولئك, والعكس ولكن الشرطة الالمانية سيطرت على الموقف. ومنعت افشال المظاهرة. كانت الفرحة تعم الجميع وكأننا غزونا الدنيا وتذكرت بعثة هارون الرشيد الى شارلمان, وكيف ابهرنا اوروبا كلها بتفوقنا العلمي. ولكن المأمون عذب احمد بن حنبل في حين ان اوروبا قدرت ان تتبنى كل الافكار. فتقدموا وتخلفنا وبلغ من تقدمهم انهم سمحوا لنا بهذه المظاهرة في وسط برلين. ولو حاولناها في اية عاصمة عربية لما امكننا كتابة هذه السطور! واخيراً تكلمت الكاتبة اقبال بركة في حفل العشاء الذي اعقب المسيرة. كانت شديدة الحماس والسعادة. وانتهى الامر كما ذكرت من قبل بحفل في الكنيسة غنت فيه عزة بلبع واحمد الجبالي والقت فيه شعرها ماجدة سعيد. وايضا القى فيه بهاء جاهين بعض شعره. ويبدو بهاء مختلفاً عن صلاح جاهين, ولكنني كنت صديقا للطرفين. ولذلك فانا مذهول من التشابه بين الاب والابن, يرى الجميع ان بهاء اكثر خجلاً.. لكنني عرفت صلاح جاهين خجولا. وعندما عدت سألني صديق عن سبب زيارتي لالمانيا. وقلت له اننا ذهبنا لنشارك في مظاهرة بمناسبة مرور خمسين عاما على النكبة نظر اليّ بدهشة, ولم يصدق, انا نفسي لا اصدق! وتابعنا اجهزة الاعلام التي تشغل حتى برجل عطس, فلم نجد اي اثر لمظاهرة الخمسة آلاف! وسلاما ياعرب!

Email