استراحة البيان: وداعا للكعب الداير: بقلم- محمود السعدني

ت + ت - الحجم الطبيعي

- كعب داير هو تعبير بوليسي عن الاسلوب الذي يتبعه رجال الشرطة للكشف عن سوابق المتهم قبل الافراج عنه, وهو نظام كان معمولا به قبل اختراع التليفون وربما قبل اختراع اللاسلكي, وربما قبل اختراع الحمام الزاجل, وزيادة في الايضاح اقول: لو ان متهما من القاهرة ارادت الشرطة ان تتأكد من سوابقه, فما عليها الا القيام بترحيل المتهم من القاهرة إلى الاسكندرية للبحث عن صحيفة سوابقه في دفاتر شرطة الاسكندرية, وهناك في الاسكندرية قد يقضي المتهم مدة تتراوح بين اسبوع إلى اسبوعين, فاذا اتضح ان المتهم ليس له سوابق في دائرة الاسكندرية, قاموا بترحيله إلى دمنهور للبحث عن سوابقه في محافظة البحيرة, وسيضطر إلى قضاء مدة مماثلة للمدة التي قضاها في الاسكندرية, فاذا ثبت انه بدون سوابق في البحيرة, قاموا بترحيله إلى محافظة كفر الشيخ أو إلى محافظة الغربية ثم إلى محافظة القليوبية ثم إلى المنوفية ثم إلى الشرقية, ثم إلى الدقهلية ثم محافظة بورسعيد فالاسماعيلية فالسويس, فاذا ثبت انه بدون سوابق في انحاء الوجه البحري, قاموا بترحيله إلى اسوان فقنا فسوهاج فأسيوط فالمنيا وبني سويف والفيوم فالجيزة, طبعا هذه الجولة كانت هي خط سير المتهم قبل انشاء محافظة الوادي الجديد ومحافظتي شمال وجنوب سيناء, وقبل ظهور محافظة مطروح طبعا, فاذا كان على المتهم قضاء ما بين اسبوع واسبوعين في كل محافظة, فمعنى هذا ان المتهم سيبقى محبوسا لمدة ستة اشهر على الاقل ليس بسبب جريمة ارتكبها, ولكن بسبب عجز الاجهزة الحكومية عن اكتشاف سوابق المتهم بالطرق العصرية, وستة اشهر قد تكون مدة قصيرة بالنسبة لرجل يقضي اجازته في لندن, أو على شاطىء موناكو, ولكنها فترة طويلة للغاية بالنسبة لرجل مسجون, وليته كان مسجونا, لان المسجون له حقوق منها تأمين الطعام والعلاج, اما المتهم الذي يجوب البلاد في رحلة كعب داير, فهو يقضي الفترة كلها في غرف الحجز بالاقسام والمراكز, وما ادراك ما غرف الحجز, ارضيتها كما اسقفها, مجرد اسفلت بارد, اما الغطاء والطعام والعلاج فعلى السيد المكعوب, اي صاحب الكعب الداير ان يؤمنها بمعنى ان تكون على حسابه, فاذا كان السيد المكعوب من الفقراء, وهو غالبا من بينهم سيدوخ دوخة الخواجاتي بعد افلاسه, اما اذا كان فقيرا وعجوزا, فستنتهي رحلة الكعب الداير بوفاته, ولن يكون هناك احد مسؤولا عن موته, الا البرد والجوع والمرض. اذكر مرة اننا كنا ننقل عفشا إلى شقة في لندن ليلا, وتعقبتنا سيارة شرطة حتى توقفنا امام باب العمارة التي اسكنها, اما السيارة فكانت ملكا لأحد اصدقائنا, اما السائق في تلك الرحلة الليلية فكان مدرب الاسكواش العالمي الصديق الكابتن عباس قاعود, سألوا في جهاز لديهم عن اسم صاحب السيارة واسم السائق, وبعد دقائق قليلة كان هناك نهر من المعلومات عن الاثنين, صاحب السيارة مصري ومقيم في لندن منذ ربع قرن, وعباس قاعود مقيم في لندن منذ ثلاثين عاما, ولم يرتكب احدهما هفوة على الاطلاق, واعتذر رجل البوليس وانصرف. تصوروا لو اخذونا كعب داير في انجلترا أو في بريطانيا, ودوخينا يا لمونه من ويلز إلى ايرلندا إلى اسكتلندا إلى انجلترا, ومن قسم شرطة إلى قسم شرطة, ومن مركز بوليس إلى مركز بوليس, وكان من الممكن ان نقضي خمس سنوات في رحلة مثل هذه, ولكنهم اختصروها إلى عدة دقائق عندما اتصلوا بقسم التحريات في اسكتلنديارد, ولا شك ان مصر بجلالة قدرها تستحق نظاما افضل من نظام الكعب الداير, خصوصا وقد اصبحت الشرطة المصرية تستخدم اجهزة الفاكس واجهزة اللاسلكي, وتستطيع معرفة كل شىء في دقائق أو في ساعات, ولذلك اسعدني جدا ما صرح به اللواء احمد همام مدير امن الجيزة وفي حضور حبيب العادلي وزير الداخلية, واثناء زيارته لمعرض المسروقات بمديرية امن الجيزة بان نظام الكعب الداير سيصبح من مخلفات الماضي, مؤكدا على ان الاجهزة الجديدة ستساعد الشرطة على الكشف الفوري عن المعلومات المطلوبة عن اي شخص, واذا كانت فرحتي بالغاء نظام الكعب الداير لاحد لها, فالعبدلله يرجو الوزير حبيب العادلي ان يتم جميله ويأمر بالغاء بعض الممارسات المعمول بها في دوائر الشرطة, مثلا.. يجب الافراج عن المسجون بعد قضاء مدة العقوبة المحكوم بها دون عرضه على المباحث, لانه لا يجوز حبس مواطن بدون حكم قضائي, وبعض المساجين يقضون عدة ايام واحيانا عدة اسابيع في اقسام الشرطة وفي مكاتب ادارات المباحث والمخدرات والاداب قبل الافراج عنهم, وفي كل بلاد العالم تفتح السجون ابوابها في الوقت المحدد للافراج, وتترك المسجون عند الباب ليتصرف بحريته, لانه ليس من حق احد ان يقيد حرية المسجون بعد انتهاء مدة عقوبته, لان مثل هذا السلوك من شأنه الغاء وظيفة القاضي, واسنادها إلى حراس السجون والمخبرين. ويا سلام, لو اصدر الوزير حبيب العادلي قرارا بالغاء مباحث السجون, على اساس ان حراس السجون فيهم الخير والبركة. واطمئن السيد الوزير من خلال تجربتي ان من بين حراس السجون رجالا في غاية الامانة والاخلاص, وهناك طبعا قلة منحرفة كما هو الحال في اي مجال, ووجود جهاز المباحث في السجون لم يمنع الفساد ولكنه ضاعفه, ولم يحدث اي شيء في السجون من خلال جهاز المباحث الا مزيد من الرشوة ومزيد من التهريب, اما ضبط جهات مباحث السجون لقطعة حشيش تكفي لف سيجارتين, أو نصف دستة حبوب تكفي لعمل دماغ, فهي مسائل محسوبة لذر الرماد في العيون, ولحماية المصدر الحقيقي للتهريب عبر الاسوار, وفي بداية العمل بهذا النظام, كان العبدلله يقضي مدة عقوبته في سجن القناطر, وكان المعلم (......) كبير تجار المخدرات بالباطنية يحصل على مزاجه يوميا عن طريق مخبر من قوة مباحث السجن, والغريب انه اثناء دخوله مستشفى السجن كان يتجول في انحاء المستشفى, يبحث في جيوب المساجين المرضى عن اي شيء مخالف, لكي يبرر وجوده في المستشفى في هذه الساعة من كل يوم. ما اكثر الاعمال الطيبة التي يمكن ان يقوم بها الوزير حبيب العادلي على رأسها منع المساجين من بيع دمهم لبنوك الدم, اولا لحماية المرضى الذين يحتاجون إلى نقل دم في المستشفيات الاستثمارية, خصوصا وقد لاحظت ان الذين يبيعون دمهم في السجون هم المساجين المرضى والمصابون بداء الكبد وداء الصدر وفقر الدم, كما ان هؤلاء المساجين الذين يبيعون دمهم لتغطية مصروفاتهم داخل السجن, غالبا ما يموتون بعد فترة في السجن من الهزال والضعف. و... عفارم للوزير حبيب العدالي على الغاء نظام كعب داير, وادعو الله ان يلهم الوزير المضي على طريق الاصلاح, وهو طريق طويل وليس له نهاية, ولكن لابد لمن يسلكه ان يمضي عليه حتى النهاية, ويكون هو الوقت المناسب, بعد ان اصبحنا على عتبة باب القرن الواحد والعشرين, وايضا, لان المصريين يستحقون ان يتحرروا من بعض الاجراءات السخيفة, والاوضاع المضحكة, ورحم الله اللواء محمود صاحب أول مسؤول بالسجون فكر في تحرير النزلاء من الغم الازلي والهم الثقيل.

Email