استراحة البيان : المخربون

ت + ت - الحجم الطبيعي

يكتبها اليوم - محمد خليفة بن حاضر خربوا الذوق فاستطابوا الخرابا وتهاووا على الخراب ذبابا فاذا بالحروف لا روح فيها والمعاني الجسام باتت يبابا جاءني صديق في حالة انفعال لم أعهده عليها منذ ان تعرفت عليه, قال لي: انه ينوي محاكمة الصحف والمجلات التي تنشر كلاما مطلسماً لا احد يعرفه وتدعيه شعرا تارة وتارة تسميه نثرا, وسبب الدعوى المزمع اقامتها هي ان اولاد صديقي باتوا يتلقون هذا الكلام شأنهم شأن الأولاد الآخرين, فلاحظ ــ وهو الأب الغيور ــ فساد ذوقهم وغرابة لغتهم التي اصبحت الى الرطانة والهذيان اقرب منها الى الفصاحة والاعراب. وبما أن صديقي كان في حالة (ثورة) رأيت لزاما علي ان اخفف من ثورته, فالأمر وان كان في غاية الأهمية ــ بل الخطورة ــ الا ان حله لن يتأتى عن طريق المحاكم التقليدية, لذلك وجب الانتظار والتريث ريثما يتم تشكيل محكمة خاصة بالخارجين على الذوق السليم واللغة السليمة من متشاعرين ومتناثرين, هذا ما أشرت به على صديقي (الثائر) للتخفيف من ثورته! لكن صديقي يلح على التوجه الى المحكمة قائلاً: ان الوقت لن يكون في صالحنا وربما طال الأمد قبل ان ترى تلك المحكمة الخاصة النور, فمن المؤكد والأمر كذلك ان الامد الطويل سيساعد المخربين على التمادي في التخريب والفاسدين على فسادهم, اذ سيعتقدون ان عدم الاعتراض على ما ينفثون من سموم يكرس ابداعهم وتفوقهم في المجتمع, اليسوا هم النخبة المباركة؟ والحقيقة انني اوافق صديقي في كل ما قال ويقول, غير ان القضية لا يراها اصحاب تلك الصحف والمجلات وأشياعهم من كتاب ومتكاتبين ومتشدقين ومتحذلقين كما يراها صديقي ومعه السواد الأعظم من القراء المثقفين على وجه الخصوص. هؤلاء يرون ان نظام (العولمة) يحتاج الى حداثة والحداثة تحتاج الى تحديث والتحديث يحتاج الى احداث والاحداث هي الاخرى تحتاج الى احداث والاحداث يحتاجون الى محدث والمحدث يحتاج الى العصا وهكذا دواليك...! والحداثة التي يرمون الى تجسيدها في خربشاتهم هي ضرب من الحذلقة والتفلسف البذيء السفسطائي, فلسفة ذات خواء مستفحل في افكارهم, مهيمن على ابصارهم وبصائرهم, بحيث لا يرون من معالم الحياة الفكرية والأدبية سوى تجاهل الوقائع والظواهر الواضحة والمضامين الجميلة, ذلك لفساد اذواقهم وخراب قلوبهم والسنتهم من هنا عمدوا الى ترجمة الوشوشات الفارغة الى كلمات تترنح بين الداء والعلة, فأصبحت الزنبقة فراشة والفراشة زنبقة؟ انهم لا يحسون بذلك الترنح فهم في حالة تخدير كامل بسبب عدم الاتزان الذهني والجهل التام بتداعيات الحياة التي يمر بها المجتمع, مجتمعهم الذي تغربوا فيه رغم ادعائهم الانتساب اليه والدفاع عنه. ما الذي يريده هؤلاء الذين شحت لديهم الامكانيات وعزت الادوات وتبخرت ادمغتهم جراء الاسترسال وراء سراب التشبه بالاعلام من سالفين ولاحقين, علما ان الاعلام لم يسلكوا طرق الابتذال ولم يدنسوا السنتهم قبل افكارهم بمفردات التعجرف الأجوف, اقرأ ما كتبوه فستجد ان البون شاسع بينهم وبين المدعين من شذاذ الكلمة, الدخلاء على الأبجدية, الضاربين بالناموس الأدبي عرض الحائط. نعم, من سيحاكم هؤلاء بعد ان تمكنوا من ارتكاب جريمتهم النكراء بحق لغة القرآن, فلقد زرعوا بذور الفساد فنمت وطالت, واخرجوا اللغة عن اطرها المعلومة وابعادها المفهومة, من سيوقف هذا السيل العرمرم من الشطط والاسفاف الادبي, هل لنا ان نطالب بتشكيل (محكمة) متخصصة لنعرض قضيتنا امامها, ام نناشد الاقلام القادرة على التصدي لهذه الغوغائية التي تسببت في شل الكلمة الفصحى واستبدالها بالعجمة؟ اين هي تلك الاقلام الغيورة على لغة الضاد التي اصبحت في سوق النخاسة كاسدة تتداولها السن السماسرة من عجم ومتعاجمين من بكم وصم, فتنطلق حناجر الرعاع مهللة لهم وهي لا تدري ان ما تهلل له مجرد ضرب من العواء في مهمة تعطلت مساكله وجفت موارده؟

Email