في لوحات عامرة بقوة الاحساس والخيال: محمد الشربيني يذيب الانسان في دوائر الطقوس الملونة

ت + ت - الحجم الطبيعي

قليل من الفنانين لم يسعدهم الحظ بتلقي دراسة اكاديمية منتظمة, واذا كانت مدرسة الفنون الجميلة قد تأسست في القاهرة العام (1908م) , فليس معنى ذلك ان كل الفنانين في التاريخ المصري الحديث قد التحقوا بها وتخرجوا فيها , ذلك ان التاريخ يذكر ان رائدا مثل محمود سعيد (1896 : 1964م) لم يكن من طلابها, كذلك لم تسع الرائدة تحية حليم - 79 سنة - كي تكون تلميذة بها, حيث يلجأ احيانا من تتملكه الموهبة وتلح عليه حمى الابداع الى الاستعانة بمدرس خاص كما فعلت تحية حليم, عندما تلقت تدريباتها الاولى على يد رسام سوري. أما محمود سعيد فقد التحق بمرسم فنانة ايطالية كانت تعيش في الاسكندرية في العقد الثاني من هذا القرن, وعلى يديها تلقى اصول الحرفة. وللحقيقة فان كثيرا ممن تخرجوا من كليات الفنون لم يتركوا اثرا ذا معنى في مجال الفنون, في حين تفوق كثير ممن لم يحظوا بنعمة الالتحاق بهذه الكليات, بسبب اجتهادهم وموهبتهم. والفنان محمد الشربيني - 51 سنة - يثبت خلال 25 عاما هي مشواره مع الفن انه برغم عدم التحاقة بكليات الفنون الا انه تمكن من فرض وجوده بقوة وسط بحر الحركة التشكيلية متلاطم الامواج. بسبب اخلاصه واستشهاده ودأبه حتى لانت له ابجديات اللغة التشكيلية وافصحت عن اسرارها. تعالوا نتجول معا في معرضه الذي اقيم بالبهو الرئيسي لمؤسسة الاهرام العريقة تحت اسم (طقوس ملونة) . يجب ان نلفت الانتباه ان الانسان هو الهم الشاغل للفنان سواء كان رجلا او امرأة, حيث يصبح بطل اللوحة بامتياز , ولا يزاحمه فيها اي كائن او عنصر آخر. في لوحة (وجه) نطالع وجه انسان مكدود, لا نعرف ان كان لرجل او امرأة, يحتل معظم سطح اللوحة بنظرته الحزينة, لم يلتزم محمد الشربيني بمحاكاة الواقع, وتخفف من الالتزام بسلامة العلاقات التشريحية بين الاعضاء والعناصر المكونة للوجه, حتى يتمكن من ضخ شحنة تعبيرية صريحة وقوية في اوصال العمل, ولان المدرسة التعبيرية التي ظهرت مع بدايات هذا القرن تحتفي باللون باعتباره يحتوي على طاقة تأثيرية تيسر نقل الأحاسيس التي يبغيها الفنان, فان محمد الشربيني قد تعامل مع اللون البنفسجي بسخاء وكرم, حيث نهب هذا اللون الحزين مساحات معتبرة من الوجه, ولم يسمح للأسود - في العيون - والأبيض - في الأنف - بالتواجد الا على استحياء وتبدو ثورة الفنان وتمرده في حركة الفرشاة التي توضح قوة الخط في منطقة الحواجب وعند الشعر. واذا كانت اللوحة السابقة قد اتسمت بدرجة من القتامة, فانه في لوحة (طقوس ملونة) قد ابحر في عالم الالوان الطازجة والفاتحة فهاهو وجه انسان محروم من اي شيء يدل على وضعه الاجتماعي سواء كانت الملابس او اشارات للمكان, اختار محمد الشربيني اسلوب الخطوط المنحنية المتجاورة في ابداعه لهذا العمل, حيث يمكن متابعة الخط اللوني من اول اللوحة حتى نهايتها دون ان يتداخل او يتشابك او يتقاطع مع خط لوني آخر, ولعل تأثر الفنان بالموروث العربي والشرقي في فن التصوير هو السبب في ذلك, حيث لا يلجأ الفنان الشرقي القديم الى الحيل الفنية التي تحول دون وضوح اللون صريحا وقويا. ومع ذلك فنحن نلمس درجة بسيطة من التداخل الحذر في منطقة الجبهة. ومما يؤكد نفور الفنان من اتباع منطق التصوير الغربي هو اختفاء (الغورم) - التجسيم - والانحياز نحو التسطيح او الاكتفاء ببعدين اثنين فقط. ان انسان محمد الشربيني مجرد ... هائم مع ذاته ... لذا تلعب الخلفية عنده دورا حياديا ولا تحاول ان تشتبك مع بطل اللوحة, وهي هنا زرقاء قاتمة محدودة من تعدد الدرجات الظلية. وفي لوحة متفردة عن معظم الاعمال, حشد الفنان عددا من البشر في كتلة واحدة يتقدمها رجل ضخم الجثمان , في حين انتشر بقية الناس حوله وداخله. اعتمد محمد الشربيني على قوة الخط وحيويته في رسم افراد الجوقة, وقد اصاب عندما جعل خلفية المشهد داكنة, بينما الجميع مرسوم بخطوط ومساحات بيضاء وكعادة الفنان لا تشي لوحاته بأي شيء يوضح كنه هؤلاء الجموع, فلا ملامح, ولا تفاصيل للاجساد ولا ملابس ... انه الانسان عندما لايجد ملاذا الا في التصاقه وتكتله مع اخيه الانسان, واغلب الظن ان الهاجس الذي يضغط على اعصاب الفنان هو كيفية تقديم صياغة تشكيلية تتسم بالفرادة برغم كونها تقدم معالجات للانسان, ذلك الكائن الذي صوره كل الفنانين على مدى العصور, مما يجعل ابتكار صياغة متفردة مسألة في منتهى الصعوبة. يحتفل الفنان دوما بالموسيقى البصرية الناتجة عن الصراع بين الضوء والظل ... هذا الصراع الذي يجيد ادارته بامتياز !! وبرغم انعدام التفاصيل, الا اننا لا يمكن ان ننفلت من اسر الاحساس بالحركة التي تضخ في اللوحة, مما يمنحها قوة الحضور المنشود. محمد الشربيني - الذي لم يتلق دراسة اكاديمية منتظمة - هو خريج كلية الزراعة جامعة القاهرة 1971م - اكد باعماله هذه ان الموهبة والاجتهاد يعطيان افضل الثمار, وهذا ما انجزه في لوحات عامرة بقوة الاحساس وجسارة الخيال. واذا كان الانسان قد حرضه على انجاز اعمال ينال فيها دور البطولة المطلقة, فان ذلك الانسان قد انهكنا بما فيه الكفاية عند قراءة هذه الاعمال ... واعتقد انه جدير بذلك !! القاهرة - ناصر عراق

Email