استراحة البيان : الموهبة وحدها لا تكفي! بقلم: جلال عارف

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم تكن هناك اذاعة رسمية, ولم يكن هناك تلفزيون, ولم تكن شرائط الكاسيت تملأ الدنيا بالغناء القليل والضجيج الهائل, ومع ذلك ففي خلال عامين فقط من استقرارها بالقاهرة, كانت قد اكتسحت الجميع, وأصبحت مطربة المطربات وسيدة الغناء بلا منازع . كان هذا انجازا هائلاً حققته أم كلثوم.. بمقاييس هذا العصر بالطبع, ولكن المعجزة الحقيقية ان تظل على عرشها نصف قرن بالتمام والكمال.. لا ينافسها احد, ولا تقترب منها مطربة, ثم ترحل عن الدنيا فتظل ــ منذ ربع قرن والى ما شاء الله ــ هي الواحة التي نلجأ اليها من هجير الحياة, وهي القمة التي نحلم ان تصل اليها اجيال قادمة بالابداع الجميل والأصيل. كيف فعلت ذلك هذه الفلاحة الفقيرة التي لم تتلق الا اقل التعليم في كتّاب القرية؟ كيف صنعت من نفسها هذه الاسطورة التي فرضت نفسها على حياتنا الموسيقية والثقافية.. وما زالت؟ في البدء كانت الموهبة والحضور الطاغي, وبهما استطاعت ان تأسر الجميع.. الجماهير التي سمعت, والخبراء الذين توقفوا امام الصوت المعجزة, والشعراء والموسيقيين الذين وقعوا في أسرها ولم يحاولوا الفكاك. هذا استاذها ابو العلا محمد الذي كادت تجن عندما التقت به لاول مرة على محطة السكة الحديد, ما كادت تمر سنة او اثنتان تنضج فيهما الصبية وتبدأ في الاستقرار بالقاهرة حتى يذهب اليها في الفندق الذي كانت تنزل به, ويطلب منها ان تغني, ويستمع ابو العلا, ثم تسقط دمعة من عينه, ويقول وفقاً لرواية ام كلثوم نفسها: ــ لن افترق عن هذا الصوت طول عمري. وبالفعل لم يفارق أبو العلا ام كلثوم بعد ذلك.. وأصبح معلمها الخاص واستاذها الذي علمها فنون الغناء, وكيف تتذوق الشعر, وكيف لا تغني الا ما تفهمه وتحس به. وها هو احمد رامي.. تلتقي به بعد ان غنت له دون ان تعرفه, ومنذ اللحظة الاولى يقع رامي في هواها.. صوتا وشخصية, ولم يفارقها رامي حتى الرحيل, وتحولت قصة حبه لها الى هذا الفيض من الغناء الجميل والشعر الرقيق الذي يشكو فيه احواله.. من (جددت حبك ليه) الى (سهران لوحدي) الى (عزة جمالك فين من غير ذليل يهواه) . كان رامي هو المستمع الوحيد الذي يجلس في الاستوديو عندما تسجل ام كلثوم اغانيها, فقد كانت تحب الغناء أمام الجمهور, وكان رامي في التسجيلات هو كل جمهورها. بالطبع كتب رامي للآخرين, وغنى له عبدالوهاب وكوكبة المطربين والمطربات, ولكن أم كلثوم ظلت الملهمة التي سيطرت على مشاعره حتى الرمق الأخير. وها هو القصبجي.. التقى بأم كلثوم وهو ملء السمع والبصر. كانت ايضاً قد سجلت لشركة الاسطوانات اغنية من ألحان القصبجي دون ان تعرفه وهي أغنية (آل إيه حلف ما يكلمنيش) وكان قد لحنها لمطربة اخرى, وبعد التسجيل احس صاحب شركة الاسطوانات ان الامور ستتعقد, فأخذ القصبجي الى ام كلثوم, وتم التعارف, واسمعها اللحن مرة اخرى, واعادت أم كلثوم التسجيل, وبدأت العلاقة الغريبة بين الاثنين. كان ذلك عام 1924, وبعدها اعطاها القصبجي عشرات الالحان الجميلة واشرف على تكوين الفرقة الموسيقية التي تصاحبها بدلا من مجموعة المنشدين التي كانت تعمل معها. واصبح ملحنها الاول, وصاحبها على العود في كل حفلاتها. كان القصبجي في هذه الفترة هو امام المجددين في الموسيقى العربية, وعندما غنت له أم كلثوم عام 1928 (ان كنت اسامح) كان ذلك فتحا جديداً في عالم الاغنية, تبعه فيه عبدالوهاب وباقي الملحنين. واستمر القصبجي مصاحباً لأم كلثوم اربعين عاماً, عاشقاً لها, متبتلاً في محرابها, غيور اً عليها وعلى فنها, كان يتلو آيات القرآن الكريم وهو يجلس وراءها اثناء الغناء داعياً لها بالتوفيق, وكان لا يطيق ان يسمع عنها كلمة سوء, ولا ينام الليل اذا قربت اليها غيره من الفنانين او خصتهم بتحية, وعندما تزوجت محمود الشريف هدد بقتله. ومع ذلك فقد كانت آخر اغنية غنتها ام كلثوم له وهي التحفة الرائعة (رق الحبيب) عام 1946, وبعدها لم تغن ام كلثوم له شيئاً كانت تكلفه بتلحين بعض الاغنيات ثم لا ترضى عن الحانه فتعطيها لغيره. ومع ذلك لم يتمرد القصبجي وظل حتى النهاية يمسك بالعود ويصاحبها بالعزف في الحفلات.. وحتى بعد أن هده المرض ونقلت ام كلثوم قيادة الفرقة الموسيقية لغيره, ظل القصبجي في مكانه راضياً بان يظل قريباً من (الست) التي اسرته موهبتها منذ ان سمعها اول مرة. انها سطوة الموهبة عند الفنان الذي يدرك قيمتها, ويعلم انه من القلة القليلة التي تعلم سر عظمة هذا الصوت وميزاته التي لا تتكرر, ثم هي الشخصية الآخاذة التي تسيطر على كل من يقترب منها, ولكن هل اكتفت ام كلثوم بذلك؟ وهل كانت تصل الى ما وصلت اليه لو اعتمدت فقط على الموهبة وسحرها الشخصي؟ هنا يظهر الذكاء والادارة الواعية للصوت السماوي والفهم الشديد للتعلم, والجدية في التعامل مع موهبتها ومع مواهب الآخرين التي احاطت بها. تقول ام كلثوم ان اول كتاب وقع في يدها, وهي في قريتها هو كتاب (النظرات والعبرات) لمصطفى لطفي المنفلوطي فقرأته, وكانت قبل ذلك قد حفظت القرآن الكريم قبل ان تبلغ العاشرة, وتؤكد أم كلثوم: (ان القرآن الكريم هو الذي يرجع له الفضل في أن تعلمت مخارج الألفاظ وفهم المعنى, بل ان انشاد القرآن هو اول ما جعلني أتعلق بالغناء, وأتعلم كيف يتموج الصوت وكيف اصعد به على طبقات) . ثم تأتي ام كلثوم الى القاهرة, وتتعلم فنون الغناء على يد ابو العلا ثم القصبجي, اما رامي فكانت مهمته ان يقربها من الشعر.. وكان يحضر لها دواوين الشعر لتقرأها معه بصوت عال, وتناقشه في المعاني, وتدرك موسيقى الشعر وتغوص لأعماقه وبحوره. تقول أم كلثوم: على يد رامي قرأت (الأغاني) في أحد عشر جزءاً وقرأت كليلة ودمنة, وقرأت لكل الشعراء القدامى حتى تمنيت يوما ان اكون شاعرة, وأحس رامي بذلك, وكان يقول لي: لا عليك ان تكوني شاعرة, ان تذوق الشعر وحده موهبة. بهذه الجدية اخذت ام كلثوم نفسها. حتى انها عندما عرفت امير الشعراء احمد شوقي في اخريات ايامه, ودعاها للغناء في منزله المعروف بـ (كرمة ابن هانىء) وذهبت وغنت, ثم عادت لمنزلها لتفاجأ بأمير الشعراء على بابها في الصباح وهو يقول لها ان معه هدية متواضعة يقدمها لها.. وكانت الهدية هي رائعة شوقي: سلوا كئوس الطلا .. هل لامست فاها واستخبروا الراح ... هل مست ثناياها كتبها شوقي من وحي أم كلثوم, وغنائها العبقري, وابتعادها عن الخمر, وغنت ام كلثوم القصيدة, ولكن شوقي لم يسمعها, فقد غنتها بعد رحيله عن الدنيا, وغنت بعدها الكثير من درر امير الشعراء التي ابدع صياغتها الموسيقية رياض السنباطي... من ولد الهدى الى (نهج البردة) الى (النيل) ... تلك التحف الفنية التي سعدنا نحن بها ولم يسعد بها صاحبها! * * * ويبقى شيء آخر غير ذلك كله ــ هو الذي ساعد موهبة ام كلثوم على ان تظل على قمتها طوال هذه السنوات... انه القدرة على التجدد والحرص على ان تتكلم لغة العصر على الدوام. تعلمت من ابيها وغنت في الموالد. ثم تتلمذت على يد ابوالعلا وعرفت طريق الغناء التقليدي على يديه وغنت روائعه الكلاسيكية مثل (الصب تفضحه عيونه) و(افديه ان حفظ الهوى او ضيعا) . ولكنها لم تقف عند ذلك. فسرعان ما اكتشفت ان القصبجي هو المجدد فأصبح ملحنها الاول لعشر سنوات ثمينة في عمرها الفني. ثم التقت بالسنباطي وزكريا احمد واصبح لديها ثالوث ذهبي مكون منهما ومن القصبجي عاشت به ومعه سنوات. ثم جاءت الخمسينات والستينات ومعها رؤية جديدة وجيل جديد ولم تضيع ام كلثوم الفرصة. استعانت بالموجي اولا في الاغاني الوطنية ثم في اغاني رابعة العدوية ثم في الرائعتين العاطفيتين (للصبر حدود) و(اسال روحك) وغنت لبليغ حمدي قبل ان يبلغ الثلاثين من عمره. وقطعت معه شوطا طويلا جددت به اسلوبها الغنائي. اما كمال الطويل فحكايته حكاية مع ام كلثوم. التقت به اثناء عدوان 1956 في النشيد الخالد (والله زمان يا سلاحي) الذي كتب كلماته المبدع صلاح جاهين (هل كانت صدفة ان يكون لقاء ام كلثوم مع هذا الجيل من المبدعين في ظل حرب وطنية مصيرية؟) . وبعدها شارك الطويل في الحان رابعة العدوية. ثم فجأة توقف المشوار, ولم يعرف احد سر هذا التوقف الا بعد رحيل ام كلثوم حين اعترف الطويل بان عبدالحليم حافظ هو السبب. فقد نقل للطويل كلاما على لسان ام كلثوم يسيىء للطويل الذي صدقه وابتعد عن ام كلثوم وامتنع عن التعامل معها. وبعد سنوات طويلة ــ كما يروي الطويل ــ حكى القصة لمصطفى امين فاستمع اليها ثم ضحك. وعندما سأل الطويل عن سبب الضحك, قال مصطفى امين انه يضحك من سذاجة الطويل الذي لم يدرك ان (حليم) خاف من ان يتركه الطويل الى ساحة ام كلثوم فدبر هذه المكيدة حتى يمنع التعاون الفني بينهما. وقد كان, وتفرغ الطويل لعبدالحليم عدة سنوات قبل ان يعتزل الساحة الغنائية وسط اسف الجميع!! وبين الجيلين... جيل السنباطي وزكريا احمد والقصبجي ثم عبدالوهاب من ناحية وجيل الموجي وبليغ والطويل من ناحية اخرى. كان هناك جيل لم تتح له فرصة اللقاء بصوت ام كلثوم. كان هناك فريد الاطرش الذي حاول وقدم لام كلثوم الحانا عديدة من (الربيع) الى (اول همسة) الى قصيدة الاخطل الصغير (زهرة في دمي) ولكن ام كلثوم لم تقتنع وطلبت تعديلات ثم رأت انها لن تكون في احسن حالاتها وهي تغني هذه الالحان. وكان هناك احمد صدقي الذي استدعته ام كلثوم, ولحن لها بالفعل قصيدة (اغار من نسمة الجنوب) وطلبت ام كلثوم تعديلات فيها ورفض احمد صدقي وتوقف المشروع, واعطت ام كلثوم القصيدة للسنباطي الذي لحنها ولم تنجح. وكان هناك عبدالعظيم عبدالحق ثم كان هناك محمد فوزي الذي بدأ عدة مشروعات لم يكملها لاسباب مختلفة, وان كان قريبا من ام كلثوم التي كانت تعرف كيف تفرق بين الصداقة والعمل. لكن اللغز يبقى في محمود الشريف... هذا الفنان الجميل الذي اثرى الموسيقى المصرية والعربية وكان لعدة سنوات هو متعهد تقديم الالحان الناجحة حيث كان اسمه على اي لحن هو جواز المرور للشهرة والنجاح. هذا الفنان ارتبط مع ام كلثوم بقصة حب جميلة تم تتويجها بالزواج الذي لم يستمر طويلا لاسباب تتعلق بخال الملك فاروق الذي كان يحب ام كلثوم ولا يقوى على الزواج بها لاسباب طبقية ومن هنا سعى لتخريب الزواج الذي كان مرشحا لانتاج فني متميز. محمود الشريف طلق ام كلثوم او أرغم على طلاقها وصوتها لم يعانق الحانه, رغم ان العناق كان يمكن ان يكون ميلادا فنيا جديدا للاثنين, فالشريف كان يحمل في اعماقه تراث الشارع المصري فنيا وثقافيا, وام كلثوم كانت قادرة على ان تجعل من الشريف تطويرا طبيعيا لسيد درويش... ويا ليتها فعلت!!

Email