استراحة البيان: نهاية كاتب كبير: بقلم - محفوظ عبدالرحمن

ت + ت - الحجم الطبيعي

افترض معي ان نجيب محفوظ يتقن ان علاقته بالكتابة قد انتهت, وهو ليس افتراضا مستحيلا, فالرجل فعلا لا يستطيع كتابة كلمة الا بصعوبة كبيرة نتيجة محاولة اغتياله عندما طعنه شاب لم يقرأ له حرفا, لانه كتب رواية (اولاد حارتنا) , وهذا امر لايحدث الا في بلادنا, وعندما كتب سلمان رشدي روايته (آيات شيطانية) انهالت عليها مقالات الهجوم, وسألت بعضهم ان كانوا قد قرأوها, فأجابوا بالنفي في تأنف, فكيف يقرأون هذه السخافات, وكنت حريصا على قراءة الرواية, ولو انهم فعلوا ما فعلته لوجدوا انها اردأ مما توهموا, وانها لاتستحق حرفا واحدا مما كتبوه عنها, ولكن يبدو اننا نحتاج الى من ينوب عنا في القراءة, وفي اتخاذ القرار. ما علينا ونعود الى افتراضنا, وهو افتراض معقول كما ترى, فالرجل عندما سألوه عن اخباره قال بحسه الفكاهي: ـ الحمدلله, بدأت اتعلم الكتابة! وهذا صحيح فالعلاج الطبيعي يحاول تعليمه الكتابة, وهذا يذكره بمحاولة مشابهة, ففي احد المستشفيات يعلمون منذ عام الممثل جورج سيدهم القراءة والكتابة, فقد اصيب بجلطة في الدماغ جعلته يفقد الذاكرة ويعلمه الاطباء القراءة والكتابة كعلاج لعل ذلك يساعد في اعادة الذاكرة اليه. اقول لو ان نجيب محفوظ بسبب اصابته وبسبب ضعف السمع والبصر والشيخوخة عامة ادرك ان طائر الكتابة قد انطلق بعيدا عنه, وربما بغير اسف كبير, فالرجل كتب ما يصعب عليه اي كاتب موهوب ان يكتبه كما ونوعا. فلما ادرك انه اعتزل قرر ان يشغل بقية عمره بعمل ما, ربما ليتسلى, ولما كان قد حصل على مبلغ كبير من جائزة نوبل, فلقد قرر ان ينشىء مشروعا تجاريا, ولنفترض ــ ايضا ــ ان فكرة انشاء مطعم للفول والطعمية كانت تراوده, فتحت شرفته تماما اشهر مطعم في القاهرة, وادارة المرور تخصص وحدة تنظم الشراء منه, ولنفترض ان استاذنا الكبير وجد من يدير له المحل المنافس, وهكذا وظف امواله في هذا المشروع, وهذا ليس بعيب, ولا بجديد فكثير من ارق الادباء كانوا من اصحاب المشاريع التجارية, وهكذا كان مرسي جميل عزيز الذي قيل انه كان تاجر خضروات على ما اذكره وحسين السيد كاتب معظم اغاني عبدالوهاب, واظن انه كان تاجر بيض وهكذا ــ حسب افتراضنا ــ اصبح الكاتب الكبير صاحب جائزة نوبل صاحب محل فول وطعمية! ثم جاء الاجل, اطال الله في عمر كاتبنا, ماذا يقال عنه؟ هل يقال: توفى الى رحمة الله الاستاذ نجيب صاحب محل فول كذا بشارع النيل!! طبعا انت ترى ان هذه نكته, وربما رأيت انها نكتة (بايخة) لان المقدمات لها كانت طويلة ولكن الحقيقة انها ليست (نكته) , فلقد حدثت فعلا في الاسبوع الماضي, وظللت فعلا في حالة من حالات الغضب نتيجة هذه النكتة (البايخة) . وبدأت هذه (النكتة) السخيفة باتصال تليفوني من صديق يقول لي بفزع: هل صحيح خبر وفاة محمد شاكر؟ ورغم انني لم اعد ادهش لمثل هذا الخبر, الا انني لم اصدق, وظننتها احدى الشائعات, وهي كثيرة في الوسط الفني, فلقد تلقيت منه مكالمة طويلة بعد العيد, وتحدثنا عن وليده الاول (عمر, وكان شاكر مترددا في الزواج مرة ثانية خاصة وانه جاوز الخمسين, وكان مترددا في الانجاب, هذا الطفل من سيربيه, وللامانة فقد شجعته على الزواج وعلى الانجاب. ولان الخبر كان مفاجأة ولانه كانت لدي نسبة شك فيه, اردت ان اتأكد, فسارعت الى صفحة الوفيات في (الاهرام) وانا عادة لا اقرأها لعدة اسباب ليس من بينها ما يقوله صديق: (اخشى ان اجد اسمي فيها) ) وفي هذه الصفحة وجدت مفاجأة اخرى هي نعى لكاتب كبير هو مصطفى كامل احد رواد الكتابة للتليفزيون, ولقد قدم مع بداياته كثيرا من الاعمال الجميلة ريما كان اشهرها (القاهرة والناس) الذي كتبه مع عاصم توفيق, وكان في الستينات اشهر وانجح مسلسل يعرض على الشاشة الصغيرة, وكان من اخراج محمد فاضل, وقدم لاول مرة عددا من الذين صاروا نجوما فيما بعد اذكر منهم نور الشريف. وكان مصطفى كامل انشط كتاب الفترة وظل يعمل بهمة بعد توقف (القاهرة والناس) , واذكر له عملا من اجمل الاعمال التي رأيتها عن الصحابي أبي ذر الغفاري في سهرتين, ومما قيل في ذلك الوقت ان الرئيس عبدالناصر اثنى على العمل. وكان مصطفى كامل من اوائل الذين اهتموا بتحويل الاعمال الادبية الى مسلسلات وهكذا كتب عددا كبيرا منها عن روايات نجيب محفوظ واحسان عبدالقدوس وعبدالحليم عبدالله. وفي عام 1977 على ما اذكر التقينا في دبي, وقال لي: لقد قررت الاعتزال! ولم اصدق هذا القرار رغم انني كنت قد سمعت منه شيئا مثل هذا خلال الأشهر الاخيرة. ونفذ قراره فعلا وانصرف الى المحاماة والاعمال, واختفى من حياتنا هذه السنوات الطويلة. وفي مطلع التسعينات كان صديق قد دعانا الى سهرة في احد الفنادق, واذكر بين المدعوين سعد الدين وهبه ويحيى العلمي, واقترب منا احدهم محييا, ونظر له الجميع متسائلين وصدم مصطفى كامل صدمة كبيرة فهم اصدقاؤه وزملاؤه, ولقد حياني لانني استطعت ان اتعرف عليه, وربما كان ذلك لانني ميزت صوته. وكان هذا اللقاء صدمة كبيرة لي, فها هو كاتب كان ملء السمع والبصر, تمضي السنون, فلا يعرفه حتى الذين عملوا معه, وصادقوه. وفي هذا اللقاء العابر سألته عن هاجس الكتابة, فانا مشغول دائما بمن يعتزلون الكتابة, وهل يستطيعون ذلك فعلا, واجابني مصطفى في كلمات قاطعة: انتهت من حياتي! والتأكيد الشديد في صوته جعلني اشك في صدق هذا التأكيد. وكثيرا ما كنت اتحدث عن مصطفى كامل سأل مع صنوه في الكتابة عاصم توفيق, ومن الغريب انهما منذ ان انفصلا ابتعدا عن الكتابة ذات بالطبع كتب عاصم توفيق بعض الاعمال المهمة, لكن شيطان الكتابة بدأ يهجره شيئا فشيئا, حتى قال لي ذات مرة: لاداعي للعناد لقد انتهت علاقتي بالكتابة! وقرأت في الاهرام نعي مصطفى كامل, وهو اسم من اشهر الاسماء في مصر, فلقد كان الزعيم مصطفى كامل المثل الاعلى لاجيال عديدة, وبموته وهو في صدر الشباب ارتبط بمشاعر الناس, ولذلك نجد هذا الاسم كثيرا, وانا على سبيل المثال كنت اعرف (عدة) مصطفى كامل, اولهم هذا الكاتب المبدع وعندما كنا نختلف على من نقصد, نقول مصطفى كامل عبدالفتاح, وايضا مصطفى كامل مراد وكان كاتب قصة, وكان عمله الاساسي ضابطا بالقوات المسلحة, ولقد توفى في حادث أليم وهو لواء وكبير معلمي الكلية الحربية, وهناك مصطفى كامل مراد ــ ايضا ــ رئيس حزب الاحرار. قرأت النص مرتين وثلاثا وانتابني غضب شديد, فلقد ذكر اهله انه المحامي بدبي, ونائب رئيس مجلس ادارة شركة كذا, ورئيس محاكم شمال القاهرة سابقا, لكنهم لم يذكروا من بعيد او قريب انه كان احد كبار الكتاب لسنوات طويلة, وان اعتزاله لا يعني ان هذه الاعمال سقطت من ذاكرة الثقافة. وتذكرت غضبة سليمان فياض عندما عرف ثم عرفنا منه ان صديقنا عبدالجليل حسن احد اعلام الفكر في الستينات قد توفى منذ زمن في ليبيا, وكتب سليمان مقالا يهاجم فيه ارملة عبدالجليل لانها لم تنشر نعيا لزوجها, وكانت وجهة نظره اننا شركاء في علاقة مع عبدالجليل حسن ومن حقنا ان نعرف, وانه من حقنا ان نحزن عليه وان نتذكره. اصابني غضب مشابه, فالنعي مكتوب بطريقة لاتسمح لاحد ان ينتبه الى ان هذا الرجل هو الكاتب الكبير مصطفى كامل ففي صدر الكلام.. المستشار مصطفى كامل عبدالفتاح. فاذا قرأت هذا الكلام كيف يخطر على بالك انه الكاتب مصطفى كامل خاصة وان الكثيرين لايعرفون انه كان قاضيا واسأل من يحبون عبدالحليم عبدالله اي وظيفة كان يشغل! وفعلا كان الخبر مفاجأة حتى لمن قرأوا هذه الصفحة. قال لي احدهم: اين؟ لقد قرأت الصفحة فعلا, وهكذا كان النعي غامضا. وأكاد احس ان كاتب النص كان حذرا في ان يعرف احد ان له صلة بالكتابة, فلولا هذا لافلتت منه اشارة الى انه كان كاتبا كبيرا. ومن الغريب ان محمد شاكر الذي بدأت به هذه القصة ايضا كان يفعل شيئا كالاعتزال, فلقد بدأ حياته كممثل, ومن الغريب انه كان احد ممثلي (القاهرة والناس), ثم اعتزل التمثيل ليتفرغ للاخراج وله اعمال متميزة مثل (غوايش) من تأليف محمد جلال عبدالقوي و(ورق الورد) بطولة وردة, واشتهر بأنه افضل مخرج اذاعي, ولكن نشاطه تضاءل ليتركز في الاعلانات, وليس هناك انسان في العالم العربي لم يسمع صوت محمد شاكر في اعلان, ولانه كان شديد الاعتزاز بنفسه اخذت شركات الاعلانات تبحث عن صوت مشابه, وربما وجدوا, لكننا كنا نميز صوت شاكر. الموت جزء من الحياة في رأيي انه علينا ان نتعامل معه ببساطة, واذكر اننا احتفلنا بوفاة صديق فأخذنا نضحك حتى الصباح متذكرين ما كان يفعل, وكان ذلك قمة الحزن. والحياة تمضي, ولن يبقى من محمد شاكر إلا اعماله, ولن يبقى من مصطفى كامل الا ما كتبه.

Email