استراحة البيان: على عتبة الألفية الثالثة .. بعيدا عن ألفية ابن مالك: يكتبها اليوم - مصطفى كمال

ت + ت - الحجم الطبيعي

العد التنازلي لبداية القرن الحادي والعشرين يجري بسرعة تخطف البصر وتلهب الخيال.. ومع أن يوم أول يناير سنة 2001 سيكون بالحساب الجغرافي مثل أي يوم آخر من أيام الشتاء, إلا أنه بالحساب البشري له أكثر من دلالة. فهو ليس مجرد بداية لقرن جديد, وإنما هو أيضا مطلع لألفية ثالثة بالتقويم الميلادي.. وهي ألفية لا علاقة لها بالمرة بألفية ابن مالك أو أي ألفية. حتى ولو كان وزيرا سابقا باحدى الدول العربية؟ والتقويم الميلادي.. مثل التقويم الهجري أو السرياني من صنع البشر دون سواهم من مخلوقات الله.. فهل تتصور مثلا ان الغزال في صحراء الربع الخالي, أو القرد في حديقة الحيوان أو التمساح في أعالي النيل أو الفيل في أدغال ماليزيا, أو حتى الحوت في أعماق المحيط الهادي يهمه في كثير أو قليل أن يكون له تقويم يقسم به الزمن إلى سنين, والسنين إلى شهور, والشهور إلى أسابيع وأيام ثم إلى ساعات ودقائق وثوان؟ ان كل هذا من صنعنا نحن, بني آدم. أجدادنا الأوائل هم الذين ابتكروا هذه التقاويم ليؤرخوا بها ماضيهم ويتعرفوا بها على مستقبلهم.. بل ان أجدادنا هؤلاء هم الذين قسموا الزمن إلى ماض وحاضر ومستقبل, والله وحده هو الأعلم بما إذا كان هذا التقسيم صحيحا مائة في المائة أم انه مجرد وسيلة لتنظيم حياتنا وشؤوننا.. بقدر ما تستطيع أن تستوعبه مداركنا. ما علينا.. المهم اننا سنتناسى مؤقتا اننا ــ معشر العرب - لنا تقويم آخر لحساب السنين والقرون يبدأ بهجرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة. ونحسبه بالشهور القمرية وليس بالشهور الشمسية.. وما دام العالم كله يتحدث عن الألفية الثالثة المقبلة علينا مع مطلع القرن الحادي والعشرين فلا بأس من أن نفعل ما يفعل الرومان. ومع اقتراب موعد اسدال الستار على الألف الثانية, ورفع الحجاب عن الألف الثالثة, تزدحم المطابع في مشارق الأرض ومغاربها بتنبؤات العارفين والمدعين عن الشكل الجديد الذي سيتخذه عالم الانسان في العهد الجديد. وإذا كانت تنبؤات المدعين ليست سوى ضرب من الدجل والنصب العلني الذي يعتمد بالكامل على غفلة السامعين أو القارئين.. لانها ادعاء بعلم الغيب, والغيب لا يعلمه إلا الله - فان تنبؤات العارفين ضرب من العلم الذي يتابع حركة الحاضر ليعرف منها إلى أين تسير. وإلى ماذا يمكن أن تؤدي. فمثلا, أنت ستستقل الطائرة التي تغادر مطار دبي في الساعة الثالثة بعد الظهر متجها إلى القاهرة.. ويمكنك ببساطة أن تهاتف مستقبليك في القاهرة حتى في اليوم السابق للسفر بانك ستصل في الساعة السادسة من مساء اليوم التالي. هذا تنبؤ على أساس قراءة الواقع الحاضر وحساب حركته. وليس علما بالغيب. لأن الغيب هنا قد يتدخل فيفسد كل الحسابات. وقد يحدث طارئ ما يمنعك من الوصول إلى المطار. أو يمنع الطائرة من الهبوط في موعدها بالقاهرة... غير أن هذا بعيد الاحتمال فيما يتصل بمقدم الألفية الثالثة, أو مطلع القرن الحادي والعشرين. فهو قادم حتما بعد 975 يوما بعد صدور هذا العدد من صحيفة (البيان) . ولا يوجد سوى عائق واحد لا ثاني له يمكن أن يعطل حلول هذا اليوم الفريد, هو أن تقوم القيامة قبل موعدها. ولعل هذا ما جعل بعض الدجالين في الغرب يتنبأون بقرب يوم الحشر. قبل بداية القرن الجديد... ولا تعجب إذا عرفت بأنهم يجدون من يصدقونهم.. فما زال السذج في عالمنا أكثر من الهم على القلب... ولكن هناك - نبوءات أخرى - مبنية كما قلنا على ملاحظة دقيقة لحركة الواقع وتستحق منا النظر والتنويه. من ذلك مثلا. ان تعداد سكان الأرض سوف يصل في نهاية القرن المقبل, أي بعد نحو مائة سنة إلى مائة ألف مليون نسمة. ولنتصور معا ما يمكن أن يعنيه هذا الرقم إذا كانت الأرض تضيق اليوم بستة آلاف مليون انسان ربعهم على الأقل لا يكاد يجد قوت يومه!! ولو استمر النمو السكاني بنفس هذا المعدل ثلاثمائة سنة أخرى, فان نصيب الفرد الواحد من البشر على سطح الأرض سيكون أقل من نصف قدم مربع, أي لا يكفي لكي يقف الا على ساق واحدة, وعليه ان يتبادل رفع ساقيه في الهواء مثلما يفعل أبو قردان.. ولا يفكر أبدا في الحركة أو الجلوس أو النوم - حيث لا مجال بالمرة للتفكير في شيء من هذا أو ذاك. ومع ذلك, لا ينبغي أن نستسلم لليأس. فقد عرفت البشرية دائما كيف تحافظ على وجودها. ومنذ مائة وخمسين عاما فقط خرج على العالم اقتصادي بريطاني اسمه توماس روبرت مالتس بنظرية تقول ان انتاج الغذاء في العالم ينمو وفق متوالية حسابية - أي ,1 ,2 ,3 4... الخ. بينما البشر يتزايدون وفق متوالية هندسية, أي ,2 ,4 ,8 16... إلخ. ومعنى هذا ان الأرض, بعد مائة سنة سوف تعجز عن اطعام بنيها.. وسوف يأكل الناس بعضهم بعضا. هكذا قال الرجل في كتابيه (بحث في مبادئ السكان) و(مبادئ الاقتصاد السياسي) .. حيث دعا البشرية إلى تشجيع الحروب واتاحة الفرصة للأوبئة والطواعين كي تفتك بأكبر عدد من البشر, وإلى تحريم الزواج قبل الثلاثين واباحة الاجهاض وتوقيع غرامة مالية كبيرة على أي زوجين ينجبان أكثر من طفلين. وكان عدد البشر حينذاك أقل من 700 مليون نسمة. وها نحن قد تكاثرنا نحو ثمانية أضعاف.. ولم يحدث ما تنبأ به مالتس. والبشر يعيشون حتى اليوم على أقل من خمسي الكرة الأرضية.. والثلاثة أخماس الأخرى بحار ومحيطات يصل عمقها أحيانا إلى أكثر من أربعة كيلو مترات, وهي زاخرة بالحياة الحيوانية والنباتية, ولا يستغل البشر منها حتى الآن أكثر من واحد بالمائة على شكل أسماك ومنتجات بحرية. كما أن استكشاف الانسان لاعماق الكون هو الخطوة الأولى نحو هجرة جماعية إلى الكواكب الأخرى الصالحة لسكنى البشر, وهي في مجرتنا وحدها - وهي واحدة من 200 ألف مليون مجرة, تصل إلى مليوني كوكب تتشابه ظروفها مع ظروف كوكب الأرض من جميع الوجوه. والعقبة الوحيدة الموجودة الآن هي بعد المسافة - حيث تقاس المسافات ببلايين السنين الضوئية. ولكن من المؤكد ان البشرية سوف تستطيع التغلب على عائق المسافة والزمن. أما كيف سيحدث ذلك فلا أقل من أن يحدث بنفس الطريقة التي تسافر بها الصور على شاشة التلفزيون أو السطور المكتوبة خلال أجهزة الفاكس. ويتوقع العلماء ان يكون السفر في المستقبل بين الكواكب والمجرات باستخدام التفاوت في الجاذبية بين الأجرام السماوية حسب حجمها وسرعة دورانها حول نفسها وفي أفلاكها حول نجومها. وتتوقع مراكز الفضاء أن يصل الإنسان إلى حل هذه المشكلة نهائيا قبل نهاية القرن الحادي والعشرين. ولكن الانسان سوف يقيم مستعمرات آهلة بالسكان على سطح القمر والمريخ وبعض أقمار زحل والمشترى قبل سنة 2050. وليس من قبيل الدعاية أو الافراط في المبالغة أن تعلن شركة فنادق هيلتون منذ أيام انها بسبيل اقامة سلسلة فنادق خمس نجوم على سطح المريخ. وان في استطاعة الراغبين في حجز أماكن أن يفعلوا ذلك من الآن!! * * * * غير ان العالم الاقتصادي الامريكي الكبير, ويليام نوك, وهو يحدثنا عن الغد لا يحلق بنا في الفضاء, وانما يطوف على الأرض في كتابه (عالم جسور جديد) , حيث يقرن الدخول في القرن الواحد والعشرين مع التطور الكبير في ثورة الاتصالات والتي أدت في اعتقاده إلى اختفاء البعد (المكاني) من معادلة المجتمع البشري, وهو البعد الذي قامت على أساسه كل أنشطة الانسان وأفكاره ومؤسساته على مدى آلاف القرون.. حيث جعلت هذه الثورة من الأرض كلها مكانا واحدا. يمكن فيه للفرد أن يتواجد في أكثر من جهة في وقت واحد. بما يعني ان البشر جميعا سيصبحون من أهل الخطوة. وما من شيء ببعيد على قدرة الله.

Email