استراحة البيان: ذكريات منسية.. من موسكو : يكتبها اليوم: مصطفى كمال

ت + ت - الحجم الطبيعي

العالم من حولنا يتغير بسرعة رهيبة تفوق الخيال. من يصدق اننا منذ أقل من سبعة أعوام فقط كنا نعيش في دنيا مختلفة تماما عن دنيانا اليوم .. حتى ليخيل لنا احيانا ان هذا الماضي القريب كان من عصور سحيقة قبل بناء الاهرامات, او ربما حدث فوق كوكب آخر لا نراه الا من خلال الذاكرة او التلسكوبات عابرة الفضاء.. العالم اليوم تحكمه, او تتحكم فيه, قوة واحدة, هي الولايات المتحدة الامريكية.. لديها من المال والسلاح والجبروت ما يغريها بفرض هيمنتها على سائر العالمين, والعودة الى العصر الاستعماري ولكن بوسائل اكثر تقدما, واستفادة من دروس التاريخ. أو هكذا يتصورون.. قبل سبع سنوات أو أقل لم يكن أحد في امريكا او غير امريكا يجرؤ على مثل هذا التصور.. فقد كان مجرد وجود الاتحاد السوفييتي على قيد الحياة لا يدع للامريكان فرصة للتفكير في اكثر من الصراع من اجل البقاء. وربما كان النظام السوفييتي نقمة على الروس ورفاقهم في الجمهوريات الدائرة في فلك موسكو. ولكننا ندرك اليوم انه كان بالنسبة لنا أهل العالم الثالث نعمة ما بعدها نعمة.. فقد أتاح لنا على الاقل فرصة للمقاومة.. بل والانتصار احيانا.. ومهما كان لدينا من تحفظات ايديولوجية ضد النظام السوفييتي (الراحل) فان احدا لا يجادل في ان مجرد وجوده ممثلا في دولة قوية قادرة على منافسة اكبر القوى الرأسمالية جعل هذه القوى تقدم تنازلات ضخمة للطبقة العاملة في داخلها, وكذلك في مجال هيمنتها الاستعمارية في افريقيا وآسيا.. مما أتاح لحركة التحرر الوطني في المستعمرات فرصة أوسع للكفاح من اجل الاستقلال.. والحصول عليه في النهاية.. غير ان هذا كله اصبح الان تاريخا.. والحديث عنه بات اقرب الى المراثي أو الذكريات التي تكاد تدفن الى الابد تحت وابل الاحداث التي تلاحقنا يوما بعد يوم منذ انفردت الولايات المتحدة بناصية القطب الواحد الاوحد بلا منافس او شريك منذ ان نزل علم المنجل والمطرقة من فوق سارية الكريملين ليرتفع مكانه علم جمهورية روسيا الاتحادية معلنا وفاة الاتحاد السوفييتي بالسكتة القلبية. وكان انتهاء الاتحاد السوفييتي على هذا النحو ـ وكأنه فقاعة صابون تبخرت في الهواء. مفاجأة بلا شك.. بل لعلها اكبر مفاجأة حدثت في القرن العشرين.. وقد كتب عن هذه المفاجأة وسوف يكتب مئات بل الاف من الدراسات والمجلدات.. الا ان هناك حقيقة مؤكدة لا يختلف عليها العلماء.. تلك هي ان التاريخ لا يعرف المفاجآت, وان ما يبدو على السطح وكأنه حدث مفاجىء انما هو نتيجة طبيعية لتراكم العديد من التغييرات التي قد تبدو للناظر وكأنها بسيطة غير ملحوظة, ولكنها تظل تتراكم وتتراكم حتى تأتي قشة تقصم ظهر البعير.. او حتى تصل درجة غليان الماء الى المائة.. فاذا به يتحول الى بخار.. أو حتى تصل درجة النضج في البيضة الى نقطة معينة فاذا بنا (نفاجأ) بخروج كتكوت! *** وربما كان من حظ العبدلله ان أشهد بعيني بعض هذه (التراكمات) على مدى ثلاث زيارات للاتحاد السوفييتي تباعدت بينها السنوات من 1956 حتى 1974.. كانت الاولى في نوفمبر 1956.. عقب العدوان الثلاثي ضد مصر.. وذهبنا ـ الكاتب المعروف الدكتور محمد مندور وانا ـ الى موسكو بدعوة من لجنة السلام السوفييتية لحضور سلسلة من الندوات حول العدوان.. وكانت اقامتنا في فندق راسيا.. وهو يقع في مواجهة الكريملين عبر الميدان الاحمر الفسيح.. وكان السوفييت لا يملون من وصفه بأنه اكبر فندق في العالم. ولعل بعض ما لفت نظري ـ وسمعي ـ في تلك الزيارة هو عشق السوفييت لاستخدام (أفضل التفضيل) عند وصف كل شيء في بلادهم.. المهم.. في ظهر اليوم التالي لوصولنا اكتشف الدكتور مندور ان قفل حقيبته مكسور ـ ومع انه تأكد من سلامة كل (ممتلكاته) بالحقيبة الا ان ذلك لم يهدىء من غضبه وهو يهدر بما يشبه الصراخ. هؤلاء الـ... الذين كسروا القفل ليفتشوا الحقيبة, ما الذي كانوا يتصورون انهم سيجدون بها؟ قنابل؟ مخدرات؟ اجهزة تجسس؟ ثم هم حتى ليسوا على مستوى المحترفين... كان المفروض الا يتركوا اثرا... انهم لم يعبأوا بذلك هل تعرف لماذا؟ لأنهم يعتبروننا متخلفين من العالم الثالث. لا اهمية بالمرة لما يشعرون به او يدركون!! حاولت جاهدا ان اهدىء ثورته متوسلا اليه ان يخفض صوته حتى لا يسمعنا الجيران. فنحن في نهاية الامر ضيوف وليس من حق الضيف ان يحدث مثل هذا الضجيج.. ثم ان المسألة في نهاية الامر ليست الا جزءا من تدابير الامن, ومن حق اية دولة ان تحمي امنها من الغرباء بالطريقة التي تراها. وهكذا, اخذت اطيل واعيد حتى خفت حدة غضبه... وكانت علامة ذلك ان قال: طيب... والقفل؟ هل اترك حقيبتي بهذا الشكل؟ اني احس كأنما احشائي معروضة على الملأ: اجبته... اننا نستطيع ان نطلب من ادارة الفندق ببساطة اصلاح القفل. وان هي الا دقائق حتى جاءنا بالفعل شاب مهذب وفي يده علبة ادوات واخذ يصلح القفل المكسور وهو يبادلنا الحديث بانجليزية سليمة... وعندما علم اننا عربيان أخذ يندد باسرائىل والعدوان الثلاثي والمؤامرات الاستعمارية... الخ حتى خيل الينا انه احد المشاركين في الندوة التي شهدناها في الصباح او سنشهدها بعد العصر. وانتحى بي الدكتور مندور جانبا ليسألني: كم ينبغي ان اعطيه؟ هل يكفي ثلاثة روبلات؟ اجبت يكفي وزيادة. غير ان مندور ما ان مد يده بالروبلات الثلاثة حتى انتفض الشاب (الكالونجي) منفعلا وهو يدير عينيه بيننا كأنما قد اهناه اهانة لا تغتفر, واخذ يهز سبابته الغاضبة في وجهينا وهو يردد. ما هذا؟ بقشيش... هذه العادات الرأسمالية القبيحة غير معروفة في بلدنا... اني اعمل هنا بأعظم فندق في العالم... واتقاضى مرتبي عن عملي الذي اؤديه... ولست في حاجة الى... واستمعنا صاغرين الى محاضرة الشاب الروسي عن الخلق الاشتراكي حتى لقد احسست كأني والدكتور مندور معي, نكاد نذوب من فرط الخجل. *** كانت الزيارة الثانية لموسكو في عام 1967 قبل نكسة يونيو ببضعة اشهر... وتصادف ان وقفت في ذيل طابور طويل في موقف للتاكسي. منتظرا دوري الذي تصورت انه قد لا يأتي الا بعد ساعة على الاقل. عندما توقفت بجواري سيارة ملاكي حمراء اللون عليها علامة شركة الكهرباء واطل من نافذتها شاب حسن المنظر ليسألني بانجليزية مكسرة الى اين انا ذاهب... ترددت لحظة ولكنه فتح الباب قائلا: تفضل. تفضلت. وناولته القصاصة التي كتب عليها العنوان بالروسية فقال باقتضاب... هذا في طريقي. وحمدت الله ان كفاني مؤونة الانتظار في الطابور الطويل, مضمرا في نفس الاعجاب بهذه الشهامة التي اصبحت من مميزات الشعب السوفييتي الصديق. غير ان هذا الاعجاب ما لبث ان تبدد عندما توقف سائقي الشهم قائلا: ها نحن قد وصلنا... ها هو العنوان الذي تقصده. قلت وانا افتح الباب: صدقني لا ادري كيف اشكرك. اجاب الشاب بجفاء. لا داعي لأن تشكرني بالمرة... هات خمسة روبلات. هذه اجرة التوصيلة. ناولته الخمسة روبلات وانا اقول لنفسي: اين ذهب الخلق الاشتراكي مع هذا الشاب الذي يستخدم سيارة الشركة ليحصل على بضعة روبلات. *** المرة الثالثة كانت في اواخر السبعينات. وكنت مدعوا من وزارة الاعلام, واستقبلني في المطار مدير العلاقات العامة بالوزارة. وبينما نحن في سيارته ــ التي يقودها سائق خاص ــ في طريقنا الى الفندق مال على اذني هامسا يستحسن ان تحتفظ بدولاراتك معك فلا تستبدلها في بنك الفندق... سوف استبدلها للك بأربعة اضعاف السعر الرسمي. ومرة اخرى رحت اسأل نفسي. اين تبددت الاخلاق الاشتراكية؟ ولعلني لم اعرف الاجابة الا بعد سنوات عندما شاهدت مع العالم كل انهيار المعسكر الاشتراكي مثلما ينهار بناء من ورق الكرتون.

Email