استراحة البيان: تاتا... وكفر البطيخ!! يكتبها اليوم - جلال عارف

ت + ت - الحجم الطبيعي

ذكرني الصديق محفوظ عبدالرحمن في (استراحة) سابقة لـ (البيان) بقصة السفاح محمود سليمان الذي شغل مصر في بداية الستينات, والذي استوحى منه كاتبنا العظيم نجيب محفوظ رائعته (اللص والكلاب) . وتوقفت ــ ولابد ان العديد من القراء قد توقفوا معي ــ عند تلك القصة التي تروى عن علاقة السفاح بتأميم الصحافة في مصر... ولو من دون قصد, حيث نشرت (الاخبار) نبأ مصرعه مع نبأ آخر عن عبدالناصر, فجاءت عناوينها الرئيسية في صدر صفحتها الاولى كالتالي: مصرع السفاح عبدالناصر في باكستان والحقيقة ان هذه العناوين لا علاقة لها بتأميم الصحافة, ولم تكن السبب في تدمير العلاقة بين عبدالناصر ومصطفى امين, ومع ذلك فقد صدر قبل شهور كتاب يحاول ترويج هذا الزعم, مع ان لتأميم الصحافة قصة اخرى نرويها للقارىء وللتاريخ, ولكن بعد ان نمر على قصة السفاح أولا! ومحمود سليمان لم يكن سفاحا متعطشا للدماء كما اشيع, كان مجرد لص خانته الظروف فحاول الانتقام منها, وخانته زوجته فطاردها وخلقت منه صحافة الاثارة يومها اسطورة فتابعها الناس, وطاردته الشرطة فظهر ذكاؤه الفطري الذي دوخ الشرطة بضعة اسابيع شغل فيها الرأي العام حتى سقط. كانت (اخبار اليوم) وقتها اكثر الصحف احتفالا بأخبار الجريمة, وكانت تعرف ان سقوط السفاح وشيك, وتم تجهيز عدد كامل ليتم طبعه عند القبض على السفاح, ولكن النهاية اختلفت... فمن ناحية لم يتم القبض على السفاح بل لقي مصرعه بعد حصاره, ومن ناحية اخرى صدرت (التعليمات) بعدم المبالغة في تناول الحدث خاصة بعد ان حاول البعض اضفاء بعض التفسيرات السياسية للحادث!! في ذلك الوقت كان عبدالناصر في رحلة آسيوية, وكان في طريقه إلى باكستان, وكانت (الاخبار) في هذا الوقت تحتفي كثيرا بالعنوان الرئيسي (المانشيت) وتكتبه باللون الاحمر وبحجم كبير, وكانت العادة ان يعلو (المانشيت) عنوان آخر عن موضوع مختلف ويتم الفصل بين العنوانين بخط اسود. واختار مصطفى امين يومها ان يكون العنوان الرئيسي باللون الاحمر عن مصرح السفاح, وان يعلوه عنوان كبير ومنفصل وباللون الاسود عن رحلة عبدالناصر, وتمت كتابة العنوانين بالفعل على هذا النحو: عبدالناصر في باكستان وتحته خط يفصله عن العنوان التالي الرئيسي وهو: مصرع السفاح وكتب الخطاط العنوانين, وكانت العناوين في هذه الايام تكتب باليد, وتفنن خطاط (اخبار اليوم) الكبير وكان اسمه (السخيلي) في كتابة العناوين, ثم جاءت (التعليمات) بعدم المبالغة في التعامل مع موضوع السفاح, وهكذا تم اختصار الصفحات التي كانت مخصصة لتغطية القضية, وتم تغيير (المانشيت) واصبح المانشيت الرئيسي باللون الاحمر والبنط الكبير (عبدالناصر في باكستان) وانتقل عنوان السفاح ليعلو الصفحة ببنط اصغر وباللون الاسود, وكانت هذه عملية معقدة, حيث ان تغيير المانشيتات كان يعني تأخير طبع الصحيفة لساعتين بين كتابة الخطوط وحفر الكليشيهات واعادة توضيب الصفحة. وهنا وقع الخطأ, فقد نسي العامل ان يضع الخط الفاصل بين العنوانين, وظهرت الصحيفة وكأنها تحاول الاساءة لعبدالناصر, ولم يكن ذلك صحيحا ولا ممكنا, وقد جرى تحقيق رسمي في الواقعة, ولم يكن مصطفى امين طرفا فيه, بل كان مع المخرج الفني والفنيين, وحفظ التحقيق بعد ان اتضح ان زحام العمل وتعديل العناوين مع محاولة الاسراع في الطبع لتلبية طلب التوزيع بمضاعفة الكميات المطبوعة, كل هذه العوامل هي التي كانت وراء الخطأ الذي لم يكن مقصودا بالمرة. اما الواقعة التي كانت وراء صدور قانون تنظيم الصحافة في مصر... أو تأميمها, فمختلفة, ولا علاقة لها بالسفاح من قريب او بعيد. كانت الفكرة فيما يبدو, مطروحة داخل كواليس الحكم, ولك ان تدهش اذا عرفت ان احد الذين طرحوها كان الكاتب الكبير الراحل احسان عبدالقدوس الذي عاش حياته مدافعا عن الحرية ومقاتلا في سبيلها. ولقد روى لي احسان ــ رحمه الله ــ كيف تم بناء المبنى الجديد يومها (لروز اليوسف) , وكيف وجد المؤسسة بعد ذلك مدينة بمبالغ كبيرة, الامر الذي جعله يخشى على مستقبل المؤسسة رغم النجاح الهائل الذي كانت تحققه مجلاتها, وتصور احسان يومها انه سيعطي الحكومة مقلبا لو تم تنظيم الصحافة, حيث ستتحمل الحكومة الديون, وتتكفل بنفقات المؤسسة ويتفرغ هو ومجموعة الصحفيين الرائعة التي كانت تحيط به للابداع والتفوق. روى لي احسان هذه الواقعة بعد سنوات, ولم يكن نادما على ما فعل, بل كان يعتبر انه انقذ نفسه وروزاليوسف من عبء الديون التي كانت تكبلهم. ويبدو ان الفكرة المطروحة في كواليس الحكم بتنظيم الصحافة او تأميمها كانت تجد من يعارضها, وبالتالي تريث عبدالناصر في اتخاذها حتى كانت حكاية تاتا زكى! ففي صباح احد الايام فوجىء الناس بأن مانشيت (الاخبار) اوسع الصحف اليومية انتشارا يتحدث عن لغز اختفاء تاتا زكي! اما التفاصيل التي احتلت جزءا كبيرا من الصفحة الاولى مع الصفحة الثالثة كاملة فكانت تتحدث عن هذه الفاتنة التي كانت قبل سنوات من الواقعة ملكة لجمال مصر, وبعدها تزوجت من ثري شهير, وها هي بعد سنوات تهرب من زوجها وتختفي عن الانظار وتطلب الطلاق وتصر عليه. ولعدة ايام... شغلت الصحافة الناس بمتابعة هذه القصة, وكانت العناوين الرئيسية للاخبار مخصصة لها, وتوارت الاحداث السياسية الهامة ــ وما اكثرها في هذه الايام ــ حتى تصور البعض ان هناك اتجاها (رسميا) لصرف انظار الناس عن اشياء تجري او يتم التحضير لها. واستشاط عبدالناصر غضبا, واصدر قراره بتنظيم الصحافة المصرية, ودعا رؤساء التحرير وكبار الكتاب للقائه, وروى لهم الدوافع وراء القرار, وشرح رؤيته في ضرورة ان تكون الصحافة تعبيرا عن التطورات التي تحدث في المجتمع والطبقات الجديدة التي صعدت لتجد لها مكانا بعد طول معاناة, والسلطة التي انتقلت الى الطبقة الوسطى والعمال والفلاحين. وفي هذه الجلسة اشار عبدالناصر الى قضية تاتا زكي وتساءل: هل من المعقول ان نكتب الصفحات الطويلة عن قصة امرأة هربت من زوجها, بينما نهمل المشاكل الحقيقية في المجتمع؟ وقارن بمرارة بين الاضواء التي تسلط على قصة تاتا زكى والتعتيم الذي تواجهه مشاكل اي قرية في مصر, وذكر بالصدفة البحتة ــ اسم قرية كفر البطيخ. وفي اليوم التالي, وفي نفس العدد الذي كان يحمل ملاحظات عبدالناصر,كان (الاهرام) يخصص صفحته الثالثة لتحقيق مطول ومصور عن.. كفر البطيخ! وكان كاتب التحقيق هو صلاح جلال, الذي اصبح بعد هذه الواقعة بعشرين سنة نقيبا للصحفيين المصريين, وكان اول وابرز محرر للشؤون العلمية في الصحافة العربية. والمهم.. تاتا زكى وليس السفاح هي التي كانت وراء القرار الذي مازال يحكم احوال الصحافة في مصر حتى الآن!!

Email