استراحة البيان، لا أريد قهوة! بقلم: محمد المر

ت + ت - الحجم الطبيعي

كنت جالسا اتحدث مع السيدة (اليسون كولينز) مديرة (المجلس غاليري) وهو واحد من اهم الغاليريهات الفنية في مدينة دبي بعد ان تفرجت على أحد المعارض الفنية المقامة في ذلك الغاليري, وتطرق الحديث الى اللوحات المعروضة وماهي جوانب الجمال الفني أو عدمه فيها, واتفقنا على استحسان بعضها واختلفنا على البعض الآخر. وهنا جاءت فنانة بريطانية زائرة كانت قد التقطت لي صورا فوتوغرافية من الخلف في زيارة سابقة, وقد استوحت لوحة لها من تلك الصور ورسمتها بالالوان المائية وقد جاءت لتهديني هذه اللوحة, وعندما تأملت تلك اللوحة وجدت أنها لمؤخرة لباس الرأس الخليجي المعروفة (غترة حمراء وعقال) , وهي بالتالي يمكن ان تكون لوحة لي او لعدة ملايين من الرجال الخليجيين الذين يلبسون ذلك اللباس, المهم, قبلت الهدية وشكرتها على لوحتها الطريفة التي قد يأتي احد النقاد في المستقبل ليجد فيها جوانب جمالية خفيت على امكانياتي البصرية والفنية المتواضعة!. وتجاذبت معها اطراف الحديث حول مواضيع مختلفة الى ان جاءت السيدة (اليسون كولينز) وعرضت علينا تناول أكواب الشاي والقهوة, هنا أعلنت الفنانة الزائرة رفضها لتناول أي نوع من انواع المنبهات وذكرت انها تتبع نظاما غذائيا مثاليا يحمل لجسمها النقاء الكامل والصحة المثالية وهذا النظام يعتمد فقط على الماء والخضروات وقليل جدا من الحبوب! ولم استغرب ذلك الامر فنحولها شبيه بمبالغات شعرائنا العرب في قصائدهم الغزلية التي يعانون فيها من حرارة هجر الحبيب مثل (كفى بجسمي نحولا أنني رجل لولا مخاطبتي إياك لم ترني!!) قارنت موقفها بالعادات الغذائية لشعوب اوروبا وامريكا, في الازمان السابقة كانت التخمة حكرا على الطبقات الثرية بينما كانت باقي الطبقات الاجتماعات وخصوصا الطبقات الفقيرة تحيا حياة الكفاف وموائدها لا تحمل الا انواعا محدودة من الاكل, ولم يتغير الامر بشكل جذري الا بعد الحرب العالمية الثانية فلم تعد التخمة حكرا على الطبقات الغنية بل اصبح بامكان الجميع مثلا ان يذهبوا الى تلك السوبرماركيتات الضخمة ويشتروا مالذ وطاب لهم من الطعام (لحوم, اسماك, منتجات البان, حلويات وسكاكر, فواكه, خضروات, حبوب... الخ). ولم يمض وقت طويل حتى حلت محل مصائب الجوع التي كانت تفتك بهم في الماضي (مجاعة البطاطس في ايرلندا في القرن التاسع عشر مثلا) مصائب جديدة ترتبط ارتباطا وثيقا بالتخمة والكسل والبطر. فاذا استعرضنا مثلا لائحة الامراض القاتلة في اوروبا والولايات المتحدة الامريكية لوجدنا على رأسها الامراض التي يتسبب بها الافراط في المآكل والمشارب وحياة الدعة والراحة (امراض القلب هي القاتل الاول في الولايات المتحدة الامريكية وهي دولة الرفاه الاولى في العالم حيث تحصد سنويا نصف مليون انسان!) وقد أدت مصائب التخمة الى ظهور ما يعرف في امريكا واوروبا بالمتطهرين الجدد ويقصد بهم الاشخاص اللذين يميلون عموما الى استهلاك طعام تقل ان لم تنعدم فيه اللحوم الحمراء والسكاكر والمنبهات والاملاح والمشروبات الكحولية, كما يحارب اصحابه التدخين بضراوة لا مثيل لها. وقد ادى ذلك الى ظهور مطاعم نباتية خاصة بهم والى احترام شركات الطيران لرغباتهم الغذائية والى الحملات المتكررة والشرسة ضد شركات الخمور والسجائر التي اصبحت تخاف منهم وتحسب لهم الف حساب. وبما انه يوجد قانون يقول (لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار ومضاد له في الاتجاه) فاننا نجد الان ظهور اصوات خافتة وأخذت تتعالى تدريجيا ضد المتطهرين الجدد, وملخص وجهة نظر هذه الاصوات, انه اذا كانت التخمة والانغماس في شهوات المآكل والمشارب قد ادت الى انتشار الامراض الجسدية والنفسية فان اتجاه المتطهرين الجديد والمغالاة فيه سوف يؤدي الى حرمان الناس من العديد من مباهج الحياة العادية, ويقول الباحث الدكتور (ديفيد وربورتون) من جامعة ويدنج, ان المبالغة في حرمان الجسد والنفس من متع الحياة في المأكل والمشرب لا يجعل الناس يحسون بسعادة أكثر بل انه يؤدي بهم الى حالات من الكآبة والامراض النفسية التي تساوي ان لم تتفوق على علل وامراض الافراط في المتع. ويضيف قائلا: ان اكثر الناس على الرغم من توفر الكثير من متع الشراب والطعام امامهم الا انهم يميلون الى الاعتدال وان التخمة راجعة الى امراض وم000شكلات نفسية في المقام الاول وعلاجها لا يمكن في الريجيم القاسي الذي يتبعه المتطهرون الجدد بل يرجع الى علاج تلك الامراض وحل تلك المشكلات. ويستمر الصراع بين الافراط في المتع والحرمان من المتع, وما اجمل الاعتدال, ولكن الاعتدال صعب. ولو عرفته الفنانة البريطانية الزائرة لتناولت معنا كوبا من الشاي لن يؤثر كثيرا في صحتها الجسدية والنفسية, بل ربما ادى الى المزيد من الابداعات الفنية؟!

Email