استراحة البيان: ثالث المستحيلات بقلم - محفوظ عبدالرحمن

ت + ت - الحجم الطبيعي

يظن الجميع تقريبا ان عصر الأساطير قد انتهى. واننا الآن في عصر العلم والمادة. وحتى دون ان نتفهم معنى مصطلح (اسطورة) اعتقد اننا في عصر الاسطورة. ولا اريد هنا ان اقارن مثلا بين (ألف ليلة وليلة) والأساطير الحديثة المتمثلة في سوبرمان وباتمان وغيرهما من الأساطير التي يجهلها جيلي, ويعرفها الاطفال. فالمقارنة هنا تفضح (الف ليلة) التي تبدو اقل خيالا, وان كانت اجمل كما اراها . لا اقصد (الف ليلة) وما يقابلها. انا اعني الأسطورة بمعنى اشمل من هذا. مثلا نحن نصنع من الولايات المتحدة اسطورة. اذا اشارت علينا ان نستجيب, واذا امرت فلارد لأمرها. ومن يستطيع ان يقول لا للولايات المتحدة. ورغم ذلك تقول لها اسرائيل في كل يوم لا ومع ذلك لم يحدث شيء. فنحن الذين صنعنا الأسطورة. ونحن الذين نروج لها. وعلى شاشة عربية جلست مذيعة عربية واخذت تتحدث عن خدمة 911 في الولايات المتحدة, وهي شرطة النجدة هناك. واخذت تكيل لها المديح. يكفي ان يطلبها طفل لكي تسرع لانقاذ حي بأكمه. لا تفشل ابدا, قادرة على المستحيل. واذ بي اتذكر (س. م) وهو يحكي لنا في صدر الشباب عن الاتحاد السوفييتي وما فيه من عظمة وانسانية وعدالة, وجال به الخيال الى اقصى الحدود. ومر بنا ــ اذ كنا جالسين في احد المقاهي ــ بائع اوراق اليناصيب, فقال: وفي الاتحاد السوفييت تكسب كل الاوراق!! كالت المذيعة المديح لخدمة 911 كما كان صاحبنا (س.م) يكيل المديح دون ان يعرف عما يتحدث. هذه المذيعة واجهزة الاعلام الامريكية تحولان هذه الخدمة الى اسطورة. وهكذا رأينا اسطورة 911 واسطورة الــ C.I.A واسطورة F.B.I ولم ينتبه احد الى ان كم الجرائم في امريكا يصل الى معدلات مذهلة. وان شرطيا يقتل يوميا في سان فرانسيسكو. وان خيبة الامن الامريكي كبيرة. لكنها الاسطورة, التي يصنعها الاعلام. وربما ساعد في صنعها من لا نعرفهم. وأنا مشغول باحدى الاساطير, ولعل ذلك كان السبب في هذا المدخل. وهذه الاسطورة هي (الديمقراطية) . لقد اصبحت هوس العالم الآن, الجميع يتحدثون عنها. ولكن هل حقا نحن نتحدث في نفس الموضوع؟! أنا شخصيا ارى ان الديمقراطية هي حق الانسان في ان يعبر عن نفسه, ويحصل على العدالة, وهو آمن. فهل هذا هو تصور الديمقراطية عند الجميع؟ (الديمقراطية) من وجهة نظر امريكا الداعية الى الفكرة هي ترتيب الأمور في شكل برلماني, دون اهتمام ان هذا قد يترتب على مصالح خفية. بل ربما كانت تؤكد هذه المصالح الخفية. هؤلاء الذين يريدون (اللعبة) البرلمانية دون جوهرها, هل هم حقا يؤمنون بالديمقراطية التي نعنيها؟ أعرف واحدا من الذين يعتبرهم البعض نموذجا للمطالبين بالديمقراطية, والمدافعين عنها. دخل مجلس الشعب ذات مرة. وكنا جالسين في احد المطاعم وطلب نوعا خاصا من الخبز. ولكن العامل اتى بنوع آخر, فرده غاضبا. ولكن الخطأ تكرر, فاذا بصاحبنا يلقى بسلة الخبز في وجه العامل, ويتناثر الخبز على ارض المطعم. كيف يدافع عن الديمقراطية شخص يفتقد الى الانسانية؟ لا يعرف كيف يتعامل مع عامل, أخطأ خطأ بسيطا ممكن علاجه, ثم كيف يلقي بالخبز على الارض؟! ولأنني انتمي الى الريف فأنا اراها كبيرة. فالريفيون يرون ان الخبز هو نعمة الله عليهم. وبعضهم يقسم على الخبز. ولا يطيق ريفي ان يرى قطعة خبز ملقاة على الارض. ينحني ويلتقطها ويقبلها ــ نعم يقبلها! ــ ويضعها في مكان بعيد عن اقدام المارة. هذا الشخص الذي اشرت اليه هو مثال للجميع. يتحدثون كثيرا عن الديمقراطية لكنهم عاجزون تماما عن ممارستها. اصبحت (المودة) الآن ان نبدأ القضايا من الديمقراطية وان نعيدها الى الديمقراطية. فاذا تحدثت في التنمية كان شرطها هو الديمقراطية. واذا تحدثت عن حرب الخليج, فهذا حدث لغياب الديمقراطية. واذا تحدثت عن الصحة او التخلف السياسي كانت الديمقراطية هي السبب. وربما كان ما يقولونه صحيحا, بل هو صحيح بالفعل. ولكن من هذا الذي يطلب الديمقراطية؟! أحدهم يتحدث ــ وما امتع حديثه ــ عن برلمانات الاربعينات وما بعدها وكيف كانت الديمقراطية في اوجها. ويتمنى ان تعود تلك الايام. واذا لم تعد علينا السلام. هذا الرجل يقاطع اثنين من أولاده. والسبب انه اراد من احدهما ان يكون محاميا ومن الآخر ان يكون طبيبا. لكنهما خالفا رغبته, فغضب عليهما سنوات طويلة. والمدهش ان ولديه هما طبيب ومحام. وليس فيما تقرأه اي خطأ مطبعي. الرجل اراد ان يكون ابنه الاول محاميا وان يكون الثاني طبيبا. ولكن احد الولدين صار طبيبا والثاني صار محاميا! ومرة اخرى ليس هناك اي خطأ مطبعي. والقصة ببساطة ان صاحبنا هذا اراد لابنه الاول ان يكون محاميا لكثرة قضاياه. واحب ادخال احدهما الى كلية الطب توقعا منه ان صحته الآن ستكون جيدة, وانه لن يحتاج طبيبا الا مع الشيخوخة. وكل ما فعله الولدان ان كلا منهما اخذ مكان الآخر, فالاول كان يحب الطب والثاني كان يحب القانون. ولم يطق الاب ــ المنادي بالديمقراطية ــ الا ينفذ ولديه ارادته حرفيا, فقاطعهما سنوات طويلة. ولم يكتشف انهما نفذا ارادته. لكنها الفاشية الكامنة في اعماقه. معظم من تراهم يتحكمون في اولادهم, يسيطرون على زوجاتهم, يسيئون معاملة موظفيهم وخدمهم. فإذا ما تحدثت عن الحياة العامة مصمصوا شفاهم وقالوا ان المشكلة هي في غياب الديمقراطية. وكثيرون يعتقدون ان اثينا كانت قمة الديمقراطية. وهناك اعجاب شديد بشخصية بركليس الذي لم يرض عن الديمقراطية بديلا. وكان نتيجة هذا انه طرد بالانتخابات اكثر من عشر مرات حاكما لأثينا. وعاد اليها ايضا بالانتخابات. لكن هذه الديمقراطية الاثينية احدى الاكاذيب الكبيرة. اذ كيفي تبني نظاما على اساس ان العبيد ليس لهم حتى حقوق الحيوانات. ولأن هناك عشرات الاشكال من الديمقراطية, فهم يطلبون منا الديمقراطية الغربية. وهي مناقضة تماما للديمقراطية القبلية. فالديمقراطية القبلية مبنية على ان كل شخص معروف للآخرين بامكانياته واخلاقياته ومواقفه. ولا يمكن في هذه الحالة خداع المجموع. اما هناك فتستطيع ان تكون رئيسا للجمهورية وانت مطارد للنساء مثلما يقال عن كلينتون, وان تكون رئيسا للوزراء وانت ضد النظام الذي تمثله مثل جورباتشوف. بل هناك تمثيلية اذاعية من اشهر التمثيليات عن جماعة رشحوا (قطا) في الكونجرس. ونجح في الانتخابات. ايضا الديمقراطية الغربية مفتوحة لأي شخص يملك قوة المال او الاقناع او النفوذ او حتى قوى شريرة مثل المافيا, واحيانا قوى غير معروفة. اما في القبلية فأنت لا تكاد تملك اية قدرة جيدة على الاقناع لأنك ورثت وضعك. ولاتفهم من هذا انني احبذ الديمقراطية القبلية على غيرها. فانا حائر منذ ثلاثين عاما امام هذه المشكلة. واذا كان اول ماكتبته للاذاعة كان برنامجا عن (اخناتون) كان ثاني ما كتبته كان بركليس راعي الديمقراطية اليونانية. وفيما بعد كتبت مسلسلا كاملا عن قضية الحرية هو (عنترة) واظن ان قضية الحرية كانت شاغلي في كل المحال تقريبا. وكانت ايضا شاغلي الكتاب الذين سبقوني او زاملوني او اتو بعدنا. واظن انها ستظل شاغل الكتاب ابد الدهر. ذلك لأننا كلما نفذنا شكلا ــ اذا نفذنا فصلا ــ وجدنا انه يحتمل الكمال كما نتصور. وانه يحتمل الفساد تماما. وانه قد يكون بين بين. وبالتالي فلابد ان نبحث عن العنصر الذي يسعى للكمال, والذي ينزل الى الحضيض في نفس الوقت. ومن الواضح ان الانسان هو الذي يستطيع ان ينشء ارقى الانظمة الديمقراطية, اذا كان عفيفا محبا للصالح العام حريصا على حقوق الآخرين. وانت ربما استطعت ان تكون هذا الشخص على مثاليته, ولكن كيف تجبر الآخرين على ان يكونون؟ واذا اجبرتهم الا يكون هذا مناقضا للهدف الذي سعيت اليه وهو حرية التعبير. وهكذا ترى يا صاحبي اننا ونحن نتحدث عن الديمقراطية نتحدث عن طائر العنقاء الذي لم يوجد ابدا, لكننا نضع اسمه ووصفه في النصوص والمعاجم ودوائر المعارف. كانوا يقولون ان المستحيلات ثلاث: الغول والعنقاء والخل الوفي. ولست اوافق على هذا المثل. فلقد عرفت الخل الوفي. بالتأكيد تعرضت لغدر من كنت اظنهم اصدقاء, مثلي في ذلك مثلك. ولكنني والحمد لله صادقت هذا الخل الوفي الذي ظن صاحب المثل انه موجود. لذلك عندما اردت ان اكتب عنوان هذه الاستراحة شطبت (رابع المستحيلات) وجعلته (ثالث المستحيلات) . المهم انني اظن ان فكرة الديمقراطية مستحيلة, وانها احدى اساطير عصرنا. ومع ذلك فلا حل الا ان نعيش من اجلها, بل وان نموت ايضا من اجلها لو تطلب الامر هذا. فاعظم ما في الديمقراطية هو السعي لها.

Email