مفاجأة عمانية ـ بقلم: محمد المر

ت + ت - الحجم الطبيعي

استمتع محبو الموسيقى الكلاسيكية الرفيعة في الامارات بليلتين رائعتين من الأنغام العذبة في الاسبوع الماضي مع الأوركسترا السيمفونية السلطانية العمانية . وقد شاء حظي السعيد ان استمع لهذه الاوركسترا العربية المميزة في ليلتها الثانية وقد فاتتني الليلة الاولى بسبب سفري خارج الامارات ولقد استغربت عند قراءتي للكتيب المصاحب للحفل الموسيقي بمعلومات اعرفها للمرة الاولى, ولا ادري من هي الجهة التي اعزوا اليها جهلي في هذا الموضوع الحميم والقريب من قلبي واهتماماتي الفنية, هل هي ادارة الفرقة التي لم توفر الدعاية اللازمة لمجهوداتها الكبيرة طيلة السنوات الماضية, ام انه الاعلام الصحافي والاذاعي والتلفزيوني الاماراتي ام العماني, أم هو قصور ذاتي وانشداد للأوركسترات الأوروبية والأمريكية الكبرى التي نتابع نشاطاتها في وسائل الاعلام وفي تسجيلات الأشرطة والاسطوانات ولسان حالنا يقول سواء شئنا ام أبينا ان اوضاعنا الحضارية والثقافية والفنية المختنقة والمنحدرة في العقود القليلة الماضية لا يمكن ان تسمح بنمو مثل هذه الازهار العطرة الفواحة بأذكى الروائح عندنا وانه حتى اذا وجدت تجارب عربية محدودة في هذا المجال الابداعي العالمي فإننا ننظر اليها باعتبار ان (زمار الحي لا يطرب) ؟! أظن ان المسؤولية هي خليط من تلك العوامل وان كنت اميل الى تحميل نفسي المسؤولية الاولى في هذا الصدد خصوصا وان عمان هي جارة الامارات الاقرب وشقيقتنا الحبيبة التي نشترك معها في عناق جغرافي وتاريخي طويل ومجيد. يذكر الكتيب ان الاوركسترا السميفونية السلطانية قد تأسست في عام 1985 برعاية كريمة من سلطان عمان قابوس بن سعيد واعتمدت منذ نشأتها على تدريب المواهب الوطنية الشبابية المبدعة فقط دون الاستعانة بعازفين اجانب كما فعلت مع العديد من الاوركسترات العربية. وللأوركسترا برنامج اكاديمي متكامل يشمل بالاضافة للجوانب النظرية والتقنية الموسيقية مواد اخرى هي اللغة العربية والتربية الاسلامية واللغة الانجليزية والرياضيات والعلوم.. وبعد ان يتلقى الطلاب والطالبات المبادىء الاساسية يلتحقون بالأوركسترا كعازفين تحت التمرين. ويتم تقييم وقياس قدراتهم حسب اختبارات وامتحانات تجريها الاوركسترا العمانية بالتعاون مع أرقى المعاهد الموسيقية في العالم وتضم الأوركسترا السيمفونية السلطانية العمانية 85 عازفا وتشكل منهم مجموعات خاصة على مستوى فرق موسيقى الحجرة او على شكل مجموعة الآلات الموسيقية الوترية او النحاسية أو آلات النفخ أو الايقاع. وتقدم الاوركسترا كل عام عدة حفلات عامة حية تدخل فيها المتعة الفنية الراقية الى قلوب آلاف المستمعين من ابناء الشعب العماني الشقيق. عندما قرأت برنامج الحفل الموسيقي الذي ستقدمه الفرقة الى جمهور الامارات اشفقت على هذه الفرقة الشابة فالسيمفونية غير المكتملة لشوبرت ومقطوعات (كبريشيو ايطالية) لتشايكوفسكي و(افتتاحية المهرجان) لشوستاكوفتش و(فنلنديا) لسيبليوس ليست من المعزوفات الخفيفة والمقطوعات المسلية, انها اعمال من قلب (الربرتوار) اي الذخيرة الهامة للأعمال الكبرى والخالدة في التراث الموسيقي الانساني ولكن البداية التي جاءت مع عزف مقطوعة (افتتاحية المهرجان) حملت معها عزفا يدل على الثقة بالنفس في الاندماج والتناغم مع ألحان هذه المقطوعة المليئة بألوان الفرحة والتفاؤل والمعاني الايجابية. وبعد تصفيق الجمهور الاماراتي واعجابه بالقدرات الابداعية لهذه المواهب الشابة انتقلت الأوركسترا بقيادة المايسترو الى جوهرة الامسية ألا وهي (السيمفونية غير المكتملة) لشوبرت وعلى الرغم من ان ذلك الموسيقي العبقري كتب في عام 1822 الحركتين الأولى والثانية وتوقف عن اكمال الحركتين الباقيتين الا ان الكثير من النقاد يعتبرونها أكثر كمالا من العديد من السيمفونيات المملة التي جاءت بعدها لموسيقيين لم يمتلكوا شعلة الالهام الموسيقي التي امتلكها شوبرت الذي مات في قمة شبابه وتألقه, وقد استطاعت الأوركسترا العمانية ان تعزف هذه السيمفونية الرائعة بطريقة حيوية جسدت الانفعالات القوية المختلفة فيها والتي تتراوح من التراجيديا العنيفة الى الغنائية المحببة التي حملتها آلات النفخ وخصوصا آلة الترمبون. في الجزء الثاني من الحفل جاء دور معزوفة الموسيقار الروسي المعروف بيتر اليتش تشايكوفسكي صاحب الباليهات العظيمة والسيمفونيات الرائعة ومعزوفات الكونشرتو الجميلة فقدمت له الأوركسترا العمانية مقطوعة بديعة هي (كابريشو ايطالية) والتي كتبها اثناء اقامته في روما عام 1880 وقد كتب الى راعيته (مدام فون ميك) : (لا أعرف القيمة الموسيقية لهذه المقطوعة في المستقبل ولكنني مقتنع مقدما انها ستكون جميلة اي ان الاوركسترا ستعزفها بطريقة متألقة ولامعة وحية ومفعمة بالحيوية) . وحققت الأوركسترا العمانية نبوءة تشايكوفسكي فعزفت هذه اللؤلؤة الموسيقية البديعة بتألق ولمعان وحيوية اشتركت فيها كل آلات الاوركسترا تقريبا جالبة الى الجمهور اجواء الكرنفال الايطالي الاحتفالية التي استوحى منها تشايكوفسكي مقطوعته البديعة. وجاء مسك الختام مع معزوفة (فنلنديا) الوطنية القومية للموسيقار الفنلندي (جين سيبليوس) التي كانت صرخة رومانسية فنلندية قومية ضد الهيمنة الروسية الثقيلة. لقد حالفني الحظ ان اشنف اسماعي بحضور حفلات اعظم الأوركسترات العالمية في ميونيخ وباريس ولندن وفيينا ونيويورك وغيرها, ولكنني لم احصل على نشوة مماثلة لتلك التي حصلت عليها اثناء حضوري لحفلة الأوركسترا السيمفونية السلطانية العمانية. لقد خرجت من ذلك الحفل الرائع وأنا متفائل بمستقبل المواهب في أمتنا العربية, فهؤلاء شباب عرب من منطقتنا الخليجية يتفوقون في العزف المبدع لنماذج تمثل عصارة الابداع الموسيقي العالمي. ولاشك ان انزياح السحب السوداء عن سماء شعبنا العربي سيخرج العديد من المواهب المدفونة لكي تنجز في جميع مجالات الفن والثقافة والابداع. تحية لهذه المواهب العمانية الشابة المبدعة, وتحية لمن عرف قيمة الفن الموسيقي الراقي الذي تتفاخر به الامم والذي يبتعد عن موسيقى الحانات الصاخبة والساقطة ابتعاد الثريا عن الثرى. وتحية لأبناء الشعب العماني الشقيق الطامحين دائما للتقدم والرقي والنهوض. انهم احفاد الخليل بن احمد الفراهيدي تلك العبقرية العربية الخالدة الذي ذكر له ابن النديم في (الفهرست) كتابين هما : كتاب النغم وكتاب الايقاع المفقودين وقد ادى اهتمامه بالموسيقى الى وضعه لعلم العروض فكان اساس كل الابداع الشعري العربي على مر العصور.

Email