استراحة البيان: (موعود) ... ومسنود!! بقلم - جلال عارف

ت + ت - الحجم الطبيعي

قبل اسابيع ضمتني سهرة عائلية عند احد الاصدقاء بعدد من الفنانين اللامعين, كان بجانبي واحد من اشهر المطربين على الساحة الفنية الآن.. وكان طبيعيا ان يدور الحديث عن احوال الاغنية, وكان طبيعيا ايضا ان يأتي ذكر عبدالحليم حافظ, واذا بالمطرب الشهير يفاجئني قائلا: ــ هل تعرف... لو ادرك عبدالحليم زمن الكاسيت وأجهزة التسجيل الحديث, لجلسنا جميعا في منازلنا! وضحكت قائلا: .. وانتم ايضا؟! فقد تذكرت القصص التي صاحبت ظهور (حليم) في الساحة الفنية, وكيف ذهب ليغني بالاسكندرية ــ الواقعة الشهيرة التي كان يمكن ان تقضي عليه ــ وكيف قالت تحية كاريوكا للمطربين اللامعين الذين كانوا يحيون الموسم الغنائي معها ان هناك مطربا جديدا سوف يجعلهم يجلسون في منازلهم, وترقب الجميع ماذا سيفعل الفتى النحيل الذي صعد الى المسرح ليغنى (صافيني مرة) و(ظالم) وروائع محمد الموجي الاولى, فيفشل وينسحب باكيا, وينظر المطرب الشعبي الرائع محمد عبدالمطلب الى كاريوكا مستغربا: هل هذا هو الذي سيجعلنا نجلس في منازلنا؟! بعد شهور قليلة كانت الابواب المغلقة قد انفتحت, انتبه الناس للصوت الجميل والموسيقى الجديدة واكتشفوا من جديد ذلك الجمال الناعم في ألحان الموجى, ثم جاء لحن كمال الطويل (على قد الشوق) ليضع (حليم) في قلب الغناء المصري ويدخل باللحن الجميل كل البيوت, فإذا انطلقت (نار ياحبيبي) بعد ذلك دخل (حليم) كل القلوب.. وتوارى كل المطربين من على الساحة الفنية, وجلسوا في منازلهم كما تنبأت كاريوكا قبل شهور! في الحقيقة لم تكن النبوءة لكاريوكا, بل كانت لكامل الشناوي الكبير ولعدد كبير من الصحفيين والمثقفين والفنانين الذين استمعوا لعبدالحليم في السهرات الخاصة.. وما كان اكثرها في تلك الايام. وموهبة كمال الشناوي الحقيقية لم تكن الشعر... رغم انه كان شاعرا رائعا, ولم تكن القاء الشعر رغم انه كان احسن من يلقي الشعر في عصره, ولم تكن الصحافة.. رغم انه كان صحفيا عظيما, ولم تكن السخرية.. رغم انه كان من ائمة الساخرين في عصره, لكن موهبته الحقيقية انه كان حاضنا للمواهب.. يشم رائحة الموهبة ويرعاها, ويعطيها كل اهتمامه, ويدفعها للامام, ويطلقها ويحشد وراءها جيشا من الاقلام والفنانين والمثقفين ليرعوا الموهبة معه. ولكي تدرك صعوبة الموقف بالنسبة لهذا الفتى النحيل المريض الموهوب, فعليك ان تدرك انه لم يظهر على الساحة في زمن المطربون فيه من وزن علي حميدة ومصطفى قمر, والالحان فيه لحسن إش إش, واشعار الاغاني يكتبها امثال الريس بيرة! لم يكن الوضع كذلك كانت الساحة تزدحم بالمواهب الى حد لا يصدق, كانت أم كلثوم في عزها ومعها ليلى مراد في الاصوات النسائية, اما في الرجال فحدث ولا حرج.. كان عبدالوهاب مازال على القمة, صحيح ان صوته بدأ يشحب, ولكنه كان قادرا على التعويض بمواهبه التلحينية, وكان فريد الاطرش في قمة تألقه مع فيلم (لحن الخلود) الذي جمعه بسيدة الشاشة فاتن حمامة وبالوافدة التي نافستها لسنوات (ماجدة) , وكان هناك ايضا محمد فوزي بأفلامه الاستعراضية وموسيقاه العذبة. هؤلاء كانوا يجمعون بين التلحين والغناء ومعهم كان نجم سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية عبدالعزيز محمود الذي سيطر بألحانه الشعبية على الساحة لسنوات, ثم خذ عندك هذه الاصوات.. كارم محمود, وعبدالغني السيد, وعبدالمطلب, وكل واحد منهم حكاية في الغناء الجميل, ولون متفرد, وكلهم كانوا متألقين ومنتشرين حتى جاء (حليم) . وتغير الموقف تماما, تراجع فريد, واختفى الباقون بمن فيهم فوزي اما عبدالوهاب فقد استخدم كل قرون الاستشعار الفنية.. وما اكثرها عنده, واحتاط للامر من كل الجوانب, وقع عقدا مع النجم الجديد ليحتكر جهوده السينمائية, تم وضع العقد في الثلاجة. ثم سمح له بأن يظهر في افلام من انتاج آخرين, وبعد النجاح الذي حققه حليم في هذه الافلام اطمأن قلبه وبدأ ينتج له تنفيذا للعقد القديم, وكان طبيعيا ان تكون اغاني الافلام من تلحينه, وان يستفيد من كل التجارب السابقة, ونجحت الافلام ونجحت اغاني عبدالوهاب لحليم, وانتهت الامر بينهما الى شراكة تجارية من خلال شركة افلام واسطوانات (صوت الفن) وبشراكة فنية غنى فيها (حليم) بعض اجمل ألحان عبدالوهاب البارع في صنع الالحان على (مقاس) المطرب بالضبط! اما باقي المطربين فقد اختفوا او كادوا. محمد فوزي ابتعد عن السينما تماما, وبدأ يقدم من حين لآخر بعض الاغاني للاذاعة ويلحن للآخرين, ولكنه في هذه المرحلة قدم شيئين جميلين.. اغاني الاطفال التي مازالت هي الاجمل حتى الآن, ثم الالحان الدينية التي قدمها في اخريات حياته وبعد ان هاجمه المرض. اما كارم محمود وعبدالغني السيد وعبدالعزيز محمود فقد تواروا. ولم تفلح ألحان عبدالوهاب الجديدة التي قدمها لعبدالغني السيد في هذه الفترة في ابقائه على الساحة, وتحول عبدالعزيز محمود الى مطرب اعلانات, وظل كارم غائبا لفترة قضاها في السفر للبلاد العربية والاجنبية واستفاد منها ماديا, اما محمد عبدالمطلب فبعد فترة ضياع قصيرة عاد مرة اخرى واصبح بعد ذلك مشاركا دائما في حفلات (اضواء المدينة) باعتباره لونا خاصا يضفي البهجة على هذه الحفلات التي كان نجمها الاول والرئيسي هو (حليم) .. وحليم وحده. هل كانت مساعدة الحكم لعبد الحليم هي السبب فيما حدث له وللآخرين كما زعم البعض؟ بالطبع لا. وانما حدث ذلك لأنه كان الافضل والاجمل... والاهم من ذلك انه كان الأذكى وكان الاكثر حرصا على فنه. هو الذي فرض نفسه معبرا عن جيل جديد دانت له السيطرة في كل المجالات. وقد استوعب حليم ذلك وادرك انه لابد ان يكون صوتا للتغيير, وان يكون الاكثر شبابا وطموحا. تماما كما كان يوسف ادريس في القصة ونعمان عاشور وسعد وهبة في المسرح والطويل والموجي ثم بليغ في الموسيقى. وصلاح جاهين في الشعر الشعبي, وصلاح عبد الصبور وحجازي في الشعر. ولأن العصر كان عصرا تحكمه طموحات الشباب فقد احتضن كل هذه المواهب وترك لها المجال لتنمو وتزدهر. وكانت مشكلة جيل المطربين الذين تألقوا قبل ظهور حليم انهم لم يفهموا ذلك, وكانت النتيجة ان تركوا الساحة بهدوء. لم يكن (حليم) هو المطرب المسنود كما زعم البعض. والا فماذا فعلت مساندة اجهزة الدولة لمطربة مثل ياسمين الخيام التي اراد السادات ان يفرضها مطربة رسمية لعصره؟ لقد ضغطوا على كل المؤلفين والملحنين ليتعاملوا معها, وغنت لعبد الوهاب والسنباطي والموجي... وكانت النتيجة صفرا, واعتزلت ياسمين الخيام او افراج الحصرى (وهذا هو اسمها الحقيقي) وسعد الناس لاعتزالها... اكثر بكثير مما سعدوا بغنائها! ثم... لقد ظهرت مع حليم اصوات جميلة كان ابرزها محمد رشدي ومحمد قنديل. اما رشدي فقد اضطربت ظروفه الخاصة وضاع لسنوات قبل ان يعود بعد عشر سنوات ومع التغييرات التي شهدها المجتمع في بداية الستينات لينطلق بأغاني الفلاحين والعمال ويحقق نجاحا كبيرا ويصبح المطرب الشعبي الاول مع اغنيات مثل عدوية وعرباوي ومع الحان بليغ حمدي وكلمات الابنودي التي كانت طازجة تماما في تلك الايام. لكنه كرر نفسه بعد ذلك, وتوقف لفترة في السبعينات, وعاد بعد ذلك على هامش الحياة الغنائية في السنوات الاخيرة. اما الصوت الرائع كان يمكن ان ينافس حليم على الصدارة, فهو صوت محمد قنديل. هذا الصوت الجميل القادر له طعم (التمر هندي) في عز الصيف ورائحة (التمر حنة) والورد البلدي الاصيل. لكن قنديل كانت له مشاكل لم يستطع ــ أو لم يقرر ــ ان يتخلص منها. كانت هناك مشكلة في جسم قنديل الممتلىء القوي الذي كان يمارس رياضة رفع الاثقال قبل ان يحترف الغناء في عصر كان المطرب العاطفي يبدو رقيقا متهاويا. وهكذا كان حليم يظهر في السينما شابا عاشقا تصدقه الناس وهو يغني (ظلموه) او يبكون معه وهو يغني (في يوم في شهر في سنة) بينما كان اقصى ما وصل اليه قنديل في السينما دور (مراكبي) يغني اغنية شعبية جميلة. وكانت هناك مشكلة اخرى لقنديل وهي اختياره لما يغنيه. فرغم ان بين اغانيه روائع مثل (سماح) و(ثلاث سلامات) وغيرها, الا ان معظم انتاجه كان متوسط القيمة واقل من موهبته بكثير. لكن ذلك كله يهون امام المشكلة الاساسية عند قنديل, وهي قلة الطموح الفني, لقد بدأ نجاحه الكبير في نفس الفترة التي بدأ فيها حليم يلمع وكان قريبا لكمال الطويل الذي قدم له انجح الحان في هذه الفترة مثل (يارايحين الغورية) و(بين شطين ومية) . وعبثا حاول الطويل ان يدفعه الى الصدارة, فقد كان قانعا بأن يكون في الصف الثاني, رافضا ان يدخل في صراع على المقدمة التي بقيت لعبد الحليم. كان قنديل راضيا بالقسمة والنصيب قانعا بالتواجد المستمر على الساحة الفنية. يحقق النجاح في لحن جميل فلا يستغل الفرصة ليخطو خطوات اخرى, وانما يسرع بالعودة لمكانه المفضل في الصف الثاني... وكأنه يخشى من النجاح بأكثر من اللازم. اما حليم فكان مستعدا للقتال من اجل لحن جميل, وكان راضيا بأي تضحية من اجل النجاح. غضب الطويل ذات مرة ورفض ان يلحن له الاغنية التي يغنيها عادة في عيد الثورة, ولم ييأس حليم حتى بعد ان عرف ان الطويل سيسافر للخارج, فلجأ للمسؤلين ليمنعوه من السفر حتى يتم اللحن وهكذا غنى حليم (يا أهلا بالمعارك) . وكان على خصام طويل مع الموجي استمر لسنوات وسمع البعض من الموجي لحنا رائعا في احدى السهرات فنقل الامر لحليم الذي لم يكذب خبرا, وذهب الى الموجي لينهي الخصام الطويل, ويغني (رسالة من تحت الماء) . والمشكلة الآن ان بعض الاصوات الموهوبة هي مثل قنديل لا تملك الطموح ومعظمها لم يحصل على الفرصة. اما الذين يملكون الطموح والفرصة وتنفتح امامهم ابواب الاذاعات والتلفزيون ويتصدرون الساحة الغنائية فلا يعيبهم الا شيء واحد... انهم لا يصلحون للغناء! والنتيجة... ان عرس الفنان مازال يتربع عليه ذلك الفتى النحيل (الموعود) بحب الناس وبالشهرة والمجد والمرض والموت المبكر, (المسنود) من سلطة اخرى غير سلطة الحكم ... سلطة الموهبة الطاغية والذكاء الحاد والصوت الذي دخل القلوب قبل نصف قرن, ولم يخرج منها حتى الآن!

Email