استراحة البيان : كانت أيام..! بقلم - جلال عارف

ت + ت - الحجم الطبيعي

الضجة التي تثور الآن في مصر حول الصحافة الصفراء اي صحافة الاثارة والفضائح, وحول (دكاكين) الصحافة او الصحف الصغيرة التي تصدر الآن بتراخيص اجنبية او بتراخيص يتم استئجارها من الاحزاب السياسية , والحديث الذي يدور الآن عن الحاجة لضوابط جديدة للعمل الصحفي بعد ان ازدحمت الساحة الصحفية بعدد كبير من الصحف والمجلات.. كل ذلك يذكرنا بفترة سابقة مرت بها الصحافة المصرية في الاربعينات وشهدت الوانا من الاثارة التي بلغت حد العجب احيانا! كان ذلك بعد الحرب العالمية الثانية, وعالم قديم ينهار وعالم جديد يقوم مكانه, والصراع السياسي والاجتماعي يشتد, والقوى الوطنية تطلب جلاء الانجليز, وتقاتل انحرافات السراي, والمشاكل الاجتماعية تفرض نفسها, والتمرد بدأ في الريف ضد الاقطاعيين, وفي المدينة بين العمال والطلبة.. حتى بلغ الامر في النهاية ان شهدت القاهرة قبل الثورة اضرابا لرجال الشرطة!! هذه السنوات التي اشتعلت فيها الحركة الوطنية حتى بلغت اوجها في 1952, شهدت حيوية دافقة في الساحة الصحفية, حتى بلغت الاصدارات اليومية والاسبوعية اكثر من خمسمائة اصدار في وقت من الاوقات. وقد ساعد على ذلك عدة امور منها ان الاحزاب القديمة كانت قد بدأت تتهاوى, لتظهر قوى سياسية جديدة كان لابد لها ان تعبر عن نفسها من خلال صحف نجحت وانتشرت.. مثل صحف مصر الفتاة والاخوان. ومنها بساطة الاجراءات التي كانت مطلوبة لاصدار صحيفة, فلم يكن مطلوبا في تلك الايام الا ان تخطر وزارة الداخلية ان حضرة الفاضل (الذي هو سعادتك) يرغب في اصدار صحيفة تحت اسم كذا.. فإذا لم ترد عليك الوزارة خلال اربعين يوما, وكان في جيبك خمسة عشر جنيها فاذهب الى المطبعة واشتر الورق واصدر الصحيفة... اما المادة التحريرية فأمرها هين... خاصة ان الاساس في رواج الصحف في هذه الايام كان المقالات الملتهبة التي كان يكتبها كتاب هذا الحزب او ذاك. ايضا كان هناك عامل آخر ساعد على ظهور العديد من الصحف والمجلات, وهو ان الحرب قد خلفت ضمن ما خلفت طائفة من الاغنياء الذين اثروا خلال الحرب وبسببها واصطلح الناس على تسميتهم بـ (اغنياء الحرب) ومعظمهم من التجار الذين تعاملوا مع الجيش البريطاني وباعوا له واشتروا منه واستغلوا الظروف فكسبوا الكثير, هؤلاء لم يكونوا يملكون الثقافة ولا العلم ولا التاريخ الوطني ومع ذلك كان بعضهم يطمع في دخول عالم السياسة وكانت الاموال في ذلك الوقت تحقق له الكثير في هذا المجال, فبها يمكن ان يكون مرشح حزب قوى في دائرة مضمونة ويدخل البرلمان وبها يستطيع ان يشترى من الملك رتبة البكوية او الباشاوية حيث كان لكل منهما تسعيرة. وبالاموال ايضا كان هؤلاء يستطيعون اصدار الصحف والمجلات, وبعض هؤلاء اساء للصحافة واتخذها وسيلة لمزيد من الثراء او طريقا للتلاعب في البورصة واكتساب النفوذ, لكن البعض استطاع ــ في هذا المناخ ــ ان يقدم جديدا, مثل عزت المفتي الذي دخل تاريخ الصحافة المصرية باصدار مجلة (البعكوكة) التي اصبحت بعد ذلك اشهر المجلات الضاحكة المصرية في القرن العشرين, والتي شهدت ايام عز فاق فيها توزيعها الصحف اليومية الكبيرة, ثم شهدت ايام انحسار حققت فيها خسائر طائلة. في هذه السنوات راجت احوال طائفة من الصحفيين من الذين كانوا يجيدون العمل الصحفي ويفهمون جيدا في صناعة الصحيفة, ويملكون القدرة على الانجاز السريع.. وهؤلاء كانوا قلة, وكان الطلب عليهم شديدا, وكانت ظروف العمل تجعلهم يعملون في اكثر من صحيفة ومجلة في وقت واحد. ومن هؤلاء الصحفيين كان محمد مصطفى حمام. واذا كنت لم تسمع عن حمام, فهو شاعر واديب وصحفي, وقبل ذلك وبعده كان واحدا من الساخرين العظام وكتاب الفكاهة اللامعين, وراوية للشعر لايشق له غبار وسميرا في الليالي الجميلة ومتكلما من زعماء المتكلمين. وكان حمام يعمل في اكثر من صحيفة ومجلة, وكان ذلك لايسبب له ولا للمجلات التي يعمل بها مشاكل لكن المثير هو ما فعله حين كان يعمل في صحيفتين حزبيتين متنافستين احداهما وفدية تصدر صباحا, والاخرى من حزب منافس وتصدر مسائية, وكان حمام يعمل في احداهما سرا, وكان عمله الاساسي في الصحيفتين هو كتابة المقال الافتتاحي. وقد سارت الامور لفترة بطريقة معقولة, لكن الخلاف اشتد بين الحزبين وبالتالي بين الصحيفتين, وتطورت الامور الى معركة صحفية وسياسية ملتهبة, زادها حمام التهابا بمقالاته المتتابعة. واستمتع حمام باللعبة, كان يكتب المقال الافتتاحي للصحيفة الوفدية الصباحية فيدافع عن الوفد ويكيل الاتهامات لخصومه, ثم يرد على نفسه في المقال الافتتاحي للصحيفة الاخرى في مساء نفس اليوم وكانت سرعة الصحيفة المنافسة في الرد الفوري مثار اعجاب القراء وزادت المعركة التهابا الى ان وقعت الواقعة. كتب حمام مقالا ملتهبا يبدو انه تجاوز فيه الحدود وارسله للنشر في الصحيفة الصباحية, وكتب الرد بنفس الحرارة وارسله للصحيفة المسائية, ولأمر ما رأى المشرفون على الصحيفة الصباحية الا ينشروا الافتتاحية التي كتبها حمام, وظهرت الصحيفة بافتتاحية اخرى, ثم فوجىء القراء والمسؤولون بالصحيفة المسائية تصدر وفيها المقال الذي يرد على مقال الصحيفة الصباحية الذي لم ينشر!! وكانت فضيحة صحفية مازال الكثيرون يروونها حتى اليوم!! ولم تقتصر نوادر حمام على الصحافة, بل انه في احدى المرات نقل نشاطه للاذاعة فأوقعها في مطب اشد! كان حمام راوية للشعر لايبارى, وكانت له قدرة هائلة على الحفظ, حتى انه في يوم ما دخل في رهان على حفظ (دفتر التليفون) وكسب الرهان! لكن الاكثر اثارة انه كان قادرا على محاكاة الشعراء بصورة لاتصدق, وهكذا تقدم للمسؤولين عن الاذاعة مؤكدا انه عثر على كنز حقيقي.. وهو مجموعة كبيرة من القصائد التي لم تنشر لامير الشعراء احمد شوقي, ووضع نماذج من هذه القصائد امام المسؤولين فلم يساورهم الشك في صحتها, وبدأ حمام يلقي هذه القصائد في برنامج اسبوعي, حتى كان ما كان.. حين اذاع قصيدة لشوقي في رثاء احد الزعماء, ثم تبين بعد ذلك ان شوقي مات قبل وفاة الزعيم بعدة اعوام.. وكانت فضيحة, وعلى الهواء مباشرة!! *** صحفي آخر كان لامعا بشدة في تلك الايام.. وهو محمد علي غريب, وكان على عكس حمام جادا ومسؤولا وكان صاحب اسلوب جميل استطاع به ان يصمد في مجال الصحافة حتى نهاية حياته, وقد شاهدته في سنواته الاخيرة حيث كان مهتما على الدوام بالعمل النقابي ومسؤولا في نقابة الصحفيين ولم يكن لغريب نوادر من نوع نوادر حمام, ولكن النوادر كانت تأتي كردود فعل من الآخرين لسلوكه الصعب وتزمته في التعامل... خاصة حين يتعلق الامر بالعمل او النقابة. في فترة من الفترات لمع نجم (غريب) لدرجة كبيرة, وهكذا قرر ان يكون صاحب جريدة وبالفعل اصدر مجلة واختار لها ــ من باب التواضع طبعا ــ ان يكون اسمها (غريب) ويبدو انه كان قاسيا في التعامل مع زملائه وتصادف ان توفى اخوه في صعيد مصر واضطر للسفر لتلقي العزاء, وترك مواد العدد لزملائه كاملة وسافر مطمئنا, وفي اليوم التالي وصلت المجلة الى بلدته, واشترى بضعة اعداد ليقرأها الاهل والاصحاب, واذا به يفاجأ بان المجلة من اولها لآخرها هجوم على صاحبها ورئيس تحريرها.. هذا الـ (الغريب) الذي لايفهم في الصحافة ولا يؤدي مستحقات زملائه ولا واجبه نحو القارىء!! وكان طبيعيا ان يعود غريب في اول قطار, وكان طبيعيا ان تغلق المجلة ابوابها وعندما التقينا غريب بعد ذلك بسنوات طويلة في سهرات نقابة الصحفيين, كان استاذنا وصديق عمره رسام الكاريكاتير العظيم (رخا) يروي لنا الحكاية بطريقته الفذة, بينما غريب يكتفي بابتسامة وهو يقول: ياه... كانت ايام!!

Email