استراحة البيان الراهب المغامر 3 ــ 3: يكتبها اليوم - محفوظ عبدالرحمن

ت + ت - الحجم الطبيعي

أعتبر اكبر مغامرة في حياتي انني كنت في احد المكاتب, فتقدم مني احدهم وقال لي: الم نتقابل من قبل؟ وهو سؤال تسمعه احيانا, ولما كنت اعرف صاحبنا اجبته بالايجاب, فضرب جبهته سعيدا: اللواء فلان! واعجبتني اللعبة خاصة وانه كان هناك جمهور, واذ بصاحبنا كان ضابط احتياط مع هذا (اللواء) فأخذنا نستعيد ذكرياتنا لأكثر من نصف ساعة, وافترقنا على ان نتواصل فيما بعد, ضحكنا بشدة ورأيت نفسي مغامرا رهيبا! ولكننا كنا امام مغامر يغير اسمه ومهنته في كل يوم, بل يغير ملامحه وجنسيته, بل (يموت) والعياز بالله, ويأتي الطبيب ليكتب شهادة وفاته, والحانوتي ليعده للقاء بارئه, ويأتي رئيس البوليس السياسي ليتأكد من وفاته اذ يستميت في كل ما يفعل ويأتي مندوبو الصحف لينشروا على الناس خبر وفاة المغامر الرهيب: حافظ نجيب! ورغم غرابة المغامرة الا انني صدقتها بسرعة, فشهادة مندوبي الصحف موثقة في صحفهم, ومغامرة وفاة حافظ نجيب ودفنه ثم عودته الى الحياة مرة اخرى كانت امام المحاكم فيما بعد. اما ما وجدت صعوبة في تصديقه هو دخوله الدير... كراهب, ولنبدأ القصة من اولها, وليس هناك تاريخ واضح لأول القصة لكنني اتوقع ان يكون حول 1907 او قبل ذلك بقليل. وكان حافظ نجيب يعيش عادة في ثلاثة اماكن بثلاث شخصيات مختلفة, وكانت احدى تلك الشخصيات البارون دي ماسون, وهذا بالطبع شيء غريب, فمن السهل ان يتنكر الانسان في شخصية بائع حلويات او تاجر ثري او عمدة ريفي, ولكن التنكر في شخصية بارون فرنسي امر شديد الصعوبة, ووقع حافظ نجيب في حب سائحة هي الكونتيس سيجريس, ويذكر حافظ في مذكراته ان النساء كن نقطة ضعفه, ونعتقد انه كان يبالغ في هذا, وربما كان هو نفسه يدرك ذلك فيجعل هذا الاتهام على السنة اصحابه, واعتقد ان حافظ نجيب كان محبا للنساء لكنه لم يقع في الحب ابدا, ارى هذا على الاقل في مذكراته وان كانت تتناول فترة قصيرة من حياته فلقد مات قبل كتابة الاجزاء الاخرى او ربما قبل نشرها, فالنساء الكثيرات اللائي يذكرهن حافظ هن مجرد اسماء, وهو لا يستعمل كلمة (الحب) ابدا انه يقول: رأيتها فاعجبت بها!, المهم انه رأى الكونتيس سيجريس فاعجب بها وبالتأكيد كانت تستحق الاعجاب فلقد كانت رائعة الجمال من اصل اسباني وكانت زوجة لدبلوماسي فرنسي مات بسرعة فورثت عنه ثروة كبيرة ولقب الكونتيس. واتت سائحة الى مصر ولم تكن السياحة في ذلك الوقت مثلها الآن, فلقد كانت تمتد الى شهور فلقد كانت الانتقالات صعبة, ولا يمكن ان يذهب شخص الى بلد آخر ليسيح فيه ثلاثة ايام او اربعة, على اي حال اتت الكونتيس الى مصر لتقضي فيها فصل الشتاء كاملا, وهناك قابلت الكونت دي ماسون او حافظ نجيب. ودخلت الكونتيس الجميلة التي تحس بالملل الى عالم المغامر المثير فاعجبت به, واراد الرجل كسب اعجابها فكشف نفسه في مغامرة مذهلة وبالطبع امسكت به الشرطة لانه كان قد تجاوز الحدود. ويعلن للصحافيين انه سيهرب من السجن في هذه الليلة ويتم ذلك فعلا ولهذا تطارده الشرطة في عنف, فيضطر للخلاص من ذلك بادعاء موته وهي القصة التي اشرنا لها من قبل. وبعد ان يخرج من قبره يذهب الى الكونتيس التي تعجب بما فعله من اجلها ويتزوجان وهي المرة الوحيدة التي يشير فيها حافظ نجيب الى الزواج في مذكراته التي اعتقد انها اغرب مذكرات نشرت في هذا القرن, واذا كان الشيء بالشيء يذكر فلقد استمتعت بمذكرات املاها يوسف ابوحجاج فتوة الحسينية في الفترة نفسها التي يتحدث عنها حافظ نجيب تقريبا, وقد حكى فيها يوسف ابوحجاج بين ما حكى مشاركته في ثورة ,1919 وهذا يذكرنا بحديث حافظ نجيب عن دوره في الحزب الوطني وخلطه هذا الدور بمغامراته, فهل كانت هذه المغامرات احتجاجا فرديا على الاستعمار البريطاني؟! وحافظ نجيب كاتب ليس له منطق محدد, فاحيانا يروي ادق التفاصيل عن البيت الذي يعيش فيه اقاربه, واحيانا يفعل ذلك في كيفية هروبه من السجن, او خداعه لوكيل النائب العام ولكنه في المقابل يلخص الاحداث تلخيصا مخلا, فهو هنا يقول ان الكونتيس سيجريس (ولم يذكر اسمها الاول ولا مرة) اصابها الملل في هذا الزواج ويلمح الى انها تعرفت عليه في مغامرات لا تصدق, لكنه كف عن المغامرات بعد الزواج ويترك حافظ لنا الخيال لنرسم به صورة لهذا الزوج: انه رجل مطارد, حقا يتعامل مع المجتمع كرجل مات ودفن, ولكنه يخشى ان يقابل من يتذكره ولقد حدث هذا فعلا في مرحلة تالية فتعرف عليه ــ رغم خبر موته ــ من حفظ سره, ومن وشى به, انه لا يخرج الا للضرورة, لا يفتح الباب بنفسه ابدا يطمئن على اغلاق الابواب والنوافذ, يتكلف في حضور الآخرين لا يصدق في احاديثه وذكرياته لا يقول لاحد مقاس حذائه كما قال لي يحيى حقي عن مغامر آخر هو عبدالحي كيره. انها حياة تفتقد الصدق, وترجم هو ذلك بقوله انها احست بالملل. وقرر هو ان ينهي عاما من الحياة الزوجية. ويخرج الى الحياة ليجد انها قد ضاقت اكثر. ويبدو انه شارك الحزب الوطني في بهاءه في ذلك الوقت لانه اضطر للهروب بعيدا. وفيما قبل يقول لنا حافظ انه اعترض على مسكن دبرته له صديقته لانه بعيد عن الناس. ويقول ان افضل الاماكن للاختباء هو ما كان في وسط الناس, ولكن بشرط ان تكون له طرق آمنة للهروب. أما الآن فهو يختار اكثر الاماكن انعزالا: الدير. ولكن المشكلة ليست في العزلة. ولكن في اقتحام هذا العالم الغريب. انك تستطيع ان تدعي انك لست انت, وتستطيع ان تخدعني وتقول انك (لواء) او (صحفي) أو (طبيب) . ولكن من يستطيع اقناع اصحاب ديانة اخرى انه منهم؟ لكل ديانة طقوس واصطلاحات. وتجربتي مثال على هذا, فلقد نشأت في مجتمع فيه أقباط كثيرون. وذات مرة كنا نسكن النصف القبطي في قرية مقسمة بين الاقباط والمسلمين. وقرأت العهد القديم والجديد في وقت مبكر. ودرسته بعد ذلك. وفي أيام الصبا شجعني الصديق الراحل فيليب جلاب وقبطي آخر اذكر ان اسمه الاول كان فايز, على ان اعمل مراجعا لمجلة (الراعي الصالح) القبطية. ولم يكن تشجيعهما الا لأن النقود التي كنت احصل عليها كنا ننفقها معا, كعادة الشباب في هذه السن! ولكنني ذات مرة وجدت نفسي امام عبارة تقول (الأب المتنيح) ولم افهم معنى كلمة (متنيح) واعدت الكلمة الى اصلها (ناح) فلم يستقم المعنى, وقلبت المعنى في ذهني مرات فلم اصل الى شيء. فاغلقت اوراقي. وانصرفت ولم أعد أبدا. اقصد من هذا ان في كل ديانة (رموز) من المستحيل على من كان لا ينتمي اليها ان يستوعبها كلها. ولذلك فانا ارى مغامرة حافظ نجيب في دخول الدير وعدم كشفه اكبر مغامرة قرأت عنها. ويقدم حافظ لدخوله الدير بمقدمة مهمة جدا, تكشف رغم تلخيصها كثيرا من الحقائق, فيقول: (وعرضت الامر على بعض الزملاء المشتغلين بالسياسة من منشئي النهضة الوطنية فحبذوا رأيي) . ان حافظ يتكلم ــ رغم انه لا يحدد تواريخ ــ عن العقد الاول في هذا القرن, وبالتالي فهؤلاء الذين يقصدهم هم اعضاء الحزب الوطني. بل ويقول في تلميح حاد (وقال الثاني) (يقصد ثاني المتحدثين من اعضاء النهضة الوطنية) (وهو على فراش مرضه الاخير) !! ان هذا التلميح هو تصريح واضح, لانه لا ينطبق الا على شخص واحد هو مصطفى كامل باشا. الشاب الذي بدأ يكشف سوءات الاحتلال, وسافر ليشرح القضية الوطنية. ثم مات وهو في ريعان الشباب. ويبدو من حديث الاثنين ــ طبعا كان الشخص الاول هو محمد فريد ــ انه كان لديهما خطة, وانهما كانا يثقان في قدرة حافظ نجيب في الوصول الى منصب المطران حيث يستطيع ان يعد لانقلاب على الاحتلال. ولا استطيع ان ادعي ان رواية حافظ نجيب صحيحة, لانها لو كانت صحيحة فهذا يعني ان مصطفى كامل ومحمد فريد لم يكونا مقتنعين بالكفاح السلمي الذي كانا يقودانه. وربما كانت الخطة التي يشير حافظ الى انها كانت خطة محمد فريد (كما أوحى) او خطة مصطفى كامل كما يلمح بشدة, ربما كانت خطة حافظ نجيب نفسه. على اي حال هذا يدل على اختلاط الخاص بالعام في تلك الفترة, وان الناس جميعا كان يشغلهم ما يحدث في الوطن. ويدخل حافظ نجيب الدير وهذا في رأيي قمة المغامرة. واثناء وجوده في الدير يموت مصطفى كامل وهو في اوج شبابه, وتبكي مصر كلها هذا الشاب الوطني. ولاول مرة نجد حافظ نجيب يصف مشاعره. فيما قبل كان يقول: اعجبت, تضايقت, احببت. اما الآن فهو يكشف عن مشاعره بالتفصيل. بل كتب قصيدة رثاء للزعيم الوطني ويدعي حافظ ان القصيدة وصلت الى جريدة (الوطن) القبطية عن غير طريقه فنشرتها تحت عنوان (دمعة راهب) والراهب طبعا هو حافظ نجيب او غبريال ابراهيم. وكانت القصيدة سببا في تحول الامور. فلقد لقيت الاستحسان من الاغلبية, ولكن بعض رجال الدين ساءهم ان يتدخل راهب في السياسة. وتصاعد الموقف بحيث اصبح مطلوبا من الراهب المبتدىء ان يقابل البابا (البطريرك). ولكن قبل ذلك ذهب الى محمد فريد ربما ليستشيره. لكن فريد غضب بشدة لان حضوره يفسد الخطة. على اي حال كان للترهب ان ينتهي وما كان يسيرا ان يصل حافظ نجيب الى منصب مطران. ولكن تفكيره في هذا, ومحاولته, يجعلانه في الصف الاول من المغامرين.

Email