استراحة البيان: هذا ما حدث في تايوان - يكتبها اليوم: ظاعن شاهين

ت + ت - الحجم الطبيعي

تظل بعض الاشياء متقلبة كالسماء, وجميلة كالحلم, ومثيرة كالمغامرة, تترك في النفس سحابة من التداعيات تبدو احيانا ممطرة واحيانا ثائرة , وتظل أنت ما بين تداعي تلك الافكار والذكريات والحكايات الجميلة والساخرة تقهقه وحيدا في سيارتك أو بين اصحابك أو في مكتبك, وكأن حزمة من الضحك قد تسربت إلى شخصك واتلفت خلايا الصمت والوقار والهدوء, الذي تتمتع به. هكذا تجد نفسك مجنونا احيانا وسعيدا احيانا اخرى, عندما تداهمك الذكريات المؤطرة, تلك الذكريات التي تحفر زواياها عميقة في نفسك, وتأخذ نصيبها من تكوينك الاجتماعي والمعرفي. وتمتد ساحات الفرح والمتعة والذكريات عندما تلتقي شخصا عزيزا قريبا منك بعيدا عنك, وتصبح تلك الساعات آسرة, جميلة, متواصلة كالسنوات المتساقطة من اعمارنا, الهاربة منا في غفلة من الزمن ونحن لا ندري! عموما تظل الذكريات وعاء نغرف منه مادتنا كلما نظرنا إلى من حولنا فوجدنا صدودا واكتشفنا ان بعض تلك الوجوه الحاضرة ما هي الا اقنعة مزيفة في زمن متهالك لا يفهم اشارات التلقائية والطيبة والعطاء والتواصل مع الآخرين... وهكذا نجد اننا نتذكر وجوها غائبة عن سطح المكان غائرة فيه, متواصلة مع انفاسه كلما اصبحنا أو امسينا فلماذا نحسبها غائبة وهي حاضرة. ومن وعاء الذكريات احاول اليوم ان انتقي حكاية علقت في الذاكرة عشتها بتفاصيلها الصغيرة وتواصلت مع اصحابها, فعسى ان تجدوا من بين حروفها ما يستحق التوقف والتأمل والمقارنة. كان ذلك في العام 1986 حيث كنت ضمن وفد صحافي من دول مجلس التعاون الخليجي في زيارة إلى تايوان, وكان جدول العمل في يومه الاول يشير إلى ضرورة التواجد في بهو الفندق عند الثامنة والنصف صباحا حيث يتم التجمع ليتحرك الوفد عند التاسعة لمقابلة وزير الاقتصاد التايواني, وعند الموعد المعتاد كنت في بهو الفندق مرابطا وإذ بأحد الزملاء من دولة الكويت يتوجه إليّ متسائلا عن بقية الزملاء, فأجيبه بأني لم أر أحدا وانه اول من صادفت في هذا الصباح, عندها اتفقنا على الانتظار وما هي إلا دقائق, إلا وانشقت صالة الفندق العامرة بأصحاب العيون الصغيرة عن واحد منهم, تقدم إلينا بكل احترام وتقدير مؤشرا بيده راطنا باللغة الصينية ونحن ننظر إليه دون ان نعرف كلمة واحدة وكل ما توصلنا إليه عن طريق الاشارة ان السيارة في انتظارنا وعلينا ان نتبعه فورا, وهكذا توجهنا طواعية وراء الرجل, وامام باب الفندق كانت اللوموزين في انتظارنا حيث قام صاحبنا بكل احترام بفتح ابواب السيارة فركبنا ثم قام باغلاق الابواب, وادار المحرك وتوجه بنا في طواف مثير في شوارع تايبيه حتى وصلنا إلى مركز كبير, فقام صاحبنا بفتح ابواب السيارة لنا, ومن ثم توجه بنا إلى مصعد المركز وقام بنقر زره معلنا التوجه بنا إلى الطابق العاشر بينما عاد صاحبنا إلى سيارته التي تنتظر امام المركز, وما هي إلا ثوان وإذ بالمصعد يتوقف في الدور العاشر ويفتح ابوابه فنشاهد انا وزميلي الصحافي الكويتي جمهرة من الوجوه الصينية واوراق ومعاملات وبنات جميلات يقفن وراء كاونتر الاستقبال وكراسي انتظار ومكاتب هنا وهناك وجوه تخرج منها وأخرى تدخلها. وهنا وامام هذا الموقف تساءل زميلي الكويتي... ألا ترى أحدا من الزملاء؟ فأجبته: لا اعتقد ان هذا مكاننا المنشود. قال: ربما سبقونا إلى هنا. أذن لنسأل فتاة الاستقبال الجميلة عن بقية الزملاء. استمرت المشاورات اكثر من ربع الساعة دون جدوى, فهؤلاء لا يعرفون شيئا عن الوفد الخليجي, وربما كان هناك التباس وسوء فهم, فالرجل الصيني الذي ارسل للفندق كان مطلوبا منه احضار رجلين إلى هذا المكان ملامحهما شرق أوسطية, وقد وجد تلك الملامح في وجهينا لان بقية الوجوه صينية, وهكذا وجدنا انفسنا في هذا المركز التجاري بالخطأ, المهم ان عودتنا إلى الفندق استمرت نصف الساعة وما أن وصلنا حتى وجدنا الزملاء ينتظروننا في قلق دون ان يعلموا بقصتنا المثيرة فقد تأخر الوفد عن الموعد المحدد واصاب القلق مرافقينا الذين علمنا انهم امروا ادارة الفندق بكسر ابواب الغرف تحسبا لأي مكروه قد اصابنا, وما ان علم الزملاء في الوفد بالقصة المثيرة حتى كنا فاكهة الجلسات ولم تخل جلسة رسمية لوزير اقتصاد أو خارجية أو اعلام أو مدير جامعة إلا وحكايتنا تتصدر الجلسة. المثير عندما بدأ كل شخص في الوفد بتعريف نفسه, فقد كانت اسماؤنا العربية الجميلة نشازا بالنسبة للاذن الصينية التي تعودت على الرنة الموسيقية فنحن نقدم انفسنا هكذا جاسم عبدالله العماري بينما هم يقولون يونج لونج دي أو شنج لنج هي, فعلّق احد الزملاء عندما بدأت الاسماء الصينية ذات الرنة الموسيقية تتوالى دون ان يدري ان من بينهم من يفهم اللغة العربية وقد احضر خصيصا للترجمة علق هذا الزميل بأن الاخوة في الصين عندما يأتيهم مولود جديد لا يفكرون كثيرا في اسمه بل يتجهون رأسا إلى المطبخ ويرمون الشوكة على الرخام والصوت الذي ينتج عن ذلك هو اسم الوليد الجديد. وهنا خرج صوت من بين الحضور في دهشة الجميع ليقول بلكنة صينية ووجه صيني ولغة عربية أحسنت.. أحسنت!

Email