استراحة البيان: من سوق عكاظ الى هايدبارك:يكتبها اليوم- مصطفى كمال

ت + ت - الحجم الطبيعي

ما أمتع أن يعود المرء بين الحين والحين الى أوراقه القديمة, يقلب فيها وينقب في أحشائها عسى أن يجد فيها زادا يخرجه من الواقع المر ليعيش لحظات مع الماضي الجميل. بالامس, كنت في هذه الحال عندما وقعت عيناي على ملف قديم علاه الغبار, طويته منذ عشر سنوات على سلسلة مقالات لزميل عزيز تحت عنوان (هندسة العقل العربي) . وسمعت نفسي وأنا أتلو الكلمات على عجل ثم أعود اليها على مهل مرددا قول شاعرنا العربي رب يوم بكيت فيه فلما صرت في غيره بكيت عليه.. وهانحن اليوم في (غيره) منذ أيام أم المعارك التي تحولت بفعل فاعل ــ أو فاعلين ــ الى أم المصائب. ترى, لو عاد صاحبنا الى الكتابة اليوم بنفس المنهج وعلى نفس الوتيره فماذا سيقول؟ أحسبه سيكتب عن (تخريب العقل العربي) .. وليس عن هندسته الفراغية. فيكون بذلك سائرا على درب جدنا ابن سينا الذي قال: ان تشخيص الداء هو الخطوة الاولى لالتماس الدواء. سألت صديقي كاف.. ميم (هل تذكرونه؟) قائلا اني اعرف ان تخريب العقل العربي هدف غال جدا لدى أعدائنا.. ولكن كيف يخربونه؟ قال: باللغة يا صاحبي. خرب اللغة العربية يخترب عقل العرب, بل ويخترب قلبهم أيضا.. فلغتنا العربية الفصحى ليست مجرد وسيلة مواصلات لنقل الافكار والمعارف مثل سائر اللغات.. ولكنها ايضا البوتقة التي انصهر فيها وجدان العرب العاربة والمستعربة منذ عشرات القرون, ولم يكن غريبا أبدا أن ينزل بها القرآن الكريم.. منذ أيام سوق عكاظ كانت لغة قريش هي (المجمع) الذي تلتقى عنده كل القوافل النازحة من الجنوب والقادمة من الشمال والزاحفة من الشرق. ومعها الشعراء والخطباء والكهان يتبادلون الاشعار والقصائد والخطب والمواعظ كما يتبادلون المكاسب ليس بلغاتهم ولهجاتهم التي جاءوا بها من مواطنهم وانما بلغة البلد المضيف.. لغة قريش. وأحسب ان سادة مكة كانوا يقيمون هذا المهرجان الأدبي على هامش السوق كجزء من الترويج السياحي.. تماما كما تقام المهرجانات الأدبية والفنية اليوم على هامش المعارض والاسواق الدولية في سائر البلدان.. وفي حديقة هايدبارك اليوم تستطيع ان ترى تحت كل شجرة رجلا ــ أو امرأة ــ منتصبا فوق صندوق مقلوب, وفي احسن الاحوال فوق منبر متواضع محمول, وحوله جمع من الناس, معظمهم جاءوا بمحض الصدفة ليستمعوا اليه وهو يلقي خطبة رنانة او قصيدة عصماء او ربما فقرات مختارة من قاموس الشتائم ضد الملكة واسرتها ومجالس الوزراء والعموم واللوردات. وقد يرتدي بعضهم بسوح الرهبان ليتلو المواعظ منذرا السامعين بأن يوم القيامة آت بعد ثلاث نقاط, قد تكون ثلاثة ايام او ثلاثة اشهر او ثلاث سنوات بينما البعض الآخر يروج لمسحوق عجيب من اختراعه يعالج الصلع ويعيد للشيب فتوة الشباب. نفس الشيء كنت تجده في سوق عكاظ قبل 16 قرنا او تزيد ربما كان الفارق الوحيد ان الشاعر او الخطيب في سوق عكاظ كان يعتلي بعيرا او ناقة بدلا من الصندوق الخشبي, وان مستمعيه لم يأتوا بمحض الصدفة وانما جاؤوه عامدين رجالا ومن كل فج عميق ليستمعوا اليه كالعادة في كل موسم ويطربوا لسماعه. واحسب ان كل شاعر وخطيب كان يزين ناقته او بعيره بزينة ملونة حتى يهتدي به مريدوه. وكانت القصائد تلقى وتسمع ولم تكن تنشر في صحف او تكتب في دواوين اللهم الا ندرة قليلة جدا اجمع على الاعتراف بها النقاد والسامعون فكتبت على رقائق بماء الذهب, وعلقت على استار الكعبة فسميت المعلقات. كان الشعر هو ديوان العرب اي الجامع لكل ثقافاتهم وتراثهم وبهذه الصفة نفذ الى وجداننا في جيناتنا الوراثية جيل من بعد جيل تشتعل جذوته في فترات النهضة وتذبل في سنوات الانحطاط ولكنه ظل دائما ولا يزال المرآة التي تعكس الوجدان العربي.. العقل العربي. فاذا اردت ان تخرب العقل العربي فابدأ بتخريب اللغة العربية واسهل طريقة لتخريب اللغة العربية هي تدمير الشعر العربي. وتدمير الشعر العربي يبدأ وينتهي بأن تنسب اليه ما ليس منه. وارجو الا يسبقني القارىء فيفترض اني اقصد قوالب الشعر القديم من بحور وقواف وانساق تبدأ بالبكاء على الاطلال وتنتهي بالحكم والامثال مرورا بوصف دابة الركوب ومحاسن الحبيبة الغائبة والصراع مع الاعداء والوحوش ومشقة الطريق... الخ. وان ما اقصد بالتحديد هو الايقاع الموسيقي. فالكلام, اي كلام, اما ان يكون شعرا او نثرا, وهناك بالطبع شعر جيد وشعر رديء, كما ان هناك نثرا جيدا ونثرا ركيكا. وما من شك في ان النثر الجيد افضل من الشعر الرديء. ولكن يبقى الفاصل القاطع بين الشعر والنثر هو الايقاع الموسيقي, وبدون هذا الايقاع لا يكون الكلام شعرا. ومن قديم الزمان ابدع الادباء نثرا جميلا, اجمل من آلاف القصائد الباهتة .. ولكنهم لم يصنفوها في باب الشعر. وما من شك في أن مقامات الحريري وابداعات الجاحظ وترجمات ابن المقفع أجمل من معظم الشعر المنقول عن معاصريهم, كما أن روايات وقصص نجيب محفوظ وعبدالرحمن منيف وطه حسين والطيب صالح ومحمد المر وغيرهم من عمالقة النثر الفني في عصرنا لاتقل إبداعا إن لم تتفوق على معظم انتاج الشعراء المعاصرين. وقد يكون بعض ما يطرح علينا من (القصائد) النثرية آية في الجمال لدى من يفهمونها, ولكن لماذا يحرمنا كاتبوها من متعة الإيقاع الموسيقي أم أن هذا عن عجز وقلة حيلة؟ أقول وأجري على الله ان بيني وبين الشعر الحداثي, الذي يتنكر للإيقاع ويتعمد تحطيمه, خصومة, وإن كنت مصرا على أنها خصومة على أرضية من المحبة, ربما لأنني لم أتذوقه, وربما أيضا لأنني لا أفهمه, ولكن من المؤكد أني أرى فيه خطرا يهدد بتخريب العقل العربي, في وقت أؤمن فيه بمدى احتياجنا إلى العقل وأسبابه. كما أرجو أن يسامحني أصدقائي, الشعراء المحدثون أصحاب (القصائد) النثرية إذا كنت لا أفهم ما يقولون .. وأملي أن يعفوني من ترديد حكاية أبي تمام عندما بدأ قصيدة له أمام الأمير بقوله: أهم عوادي يوسف وصواحبُه فعزماً فقدماً أدرك السؤال قائله فنهره أحد حاسديه بقوله: لم لاتقول مايفهم؟ فبادره الشاعر العبقري قائلاً: ولم لاتفهم أنت مايقال؟ أقول, عسى أن يعذرني قارئي إذا تمسكت برأيي في أن الشاعر هو الملزم بأن يقول ما يفهمه سامعوه, أو على الأقل الكثرة الغالبة منهم. فالشعر عمل فني راق .. وأي عمل فني يقوم على ساقين, المرسل, والمتلقي, فإذا فقد أحد الساقين .. لم يعد له صلة بالفن .. ومع ذلك , فقد أكون مخطئاً. ومازلت أذكر عباس العقاد عندما كان رئيسا للجنة النصوص بالإذاعة, وعرضت عليه قصيدة الشاعر الكبير عبد الرحمن الشرقاوي التي كان مطلعها (من أب مصري إلى الرئيس ترومان) فحولها غاضبا إلى لجنة النثر, مصرا على أنها ليست شعرا, حيث اعتبر عدم الالتزام بالبحر والقافية والاكتفاء بالتفعيلة كوحدة للإيقاع الموسيقي خروجاً مذموماً على الشعر وقواعده .. وقد ظل متمسكاً برأيه هذا في الشعر الحديث وشعرائه حتى ذهب إلى رحمة الله.. أخشى أن أكون اليوم واقعاً في الخطأ نفسه.

Email