استراحة البيان: شيء لزوم الشيء :يكتبها اليوم - محمد الخولي

ت + ت - الحجم الطبيعي

(شيء لزوم الشيء) عبارة يذكرها المخضرمون الذين شاهدوا - عدة مرات ولا شك - فيلم نجيب الريحاني الكوميدي القديم (أبو حلموس) وهذه العبارة كانت عنوانا لأول درس تلقاه عاشور افندي الموظف الأمين .. البسيط .. الغلبان من رئيسه الأعلى ناظر الوقف , وكان درسا في أصول الانتهازية وقواعد الاختلاس وخراب الذمة .. و .. يا عاشور افندي .. تشتري الخروف الصغير وتسجل ثمنه في دفاتر العزبة على انه عشرة جنيهات .. في هذه الحالة تبقى حرامي .. ومكانك في سجن أبو زعبل أو ليمان طرة والعياذ بالله .. فالخروف الصغير لم يكن يزيد ثمنه الحقيقي عن ثلاثة جنيهات .. كان ذلك طبعا قبيل اشتعال الحرب العالمية الثانية وكانت الدنيا .. غير الدنيا والعيشة بلهنية والعشرة جنيهات ثروة أو بداية ثروة .. وسبحان مغير الأحوال, لكن صاحبنا يريد اختلاس أموال أصحاب الوقف المساكين وفيهم ذرية ضعفاء .. لايهم .. بل المهم ان تكون دفاتره على ما يرام وحساباته سليمة أربعة وعشرين قيرطا .. كيف؟ .. باتباع قاعدة اللصوص الذهبية اياها .. شيء لزوم الشيء وعليك أن تسجل في الدفاتر الثمن الحقيقي للقوزي المسكين, ثم تضيف الى الثمن ما تشاء .. حبل لزوم تقييد الخروف .. أعلاف متنوعة لزوم إطعام الخروف كذا زيارة لجناب البيطري لزوم الحرص الشديد على صحة الخروف (لم يكن على أيامهم أطباء نفسانيون يعالجون أمراض الاكتئاب التي يمكن أن تصيب الخروف) .. دع عنك ايضا اشياء أخرى لزوم الشيء الأصلي ما بين مسكن الخروف وحراسته واستحمامه ونزهته في العصاري والأصائل على شط النيل. وإذا كان الشيء الذي هو لزوم الشيء قد تكلف في فيلم (أبو حلموس) عشرة جنيهات مصرية أو نحوها .. فكم تكلف الأمر مئات وأحياناً آلاف وملايين من تطبيق نفس القاعدة, ولكن في مجالات وظروف أخرى - بلغت في بعض الأحيان حد الطرافة وأحيانا حد المضحكات المبكيات - خاصة عندما يزول الشيء الأصلي فيما تتواصل (لزومياته) وقد تعود عليها خلق الله, ولم يخطر لأي منهم السؤال عن سبب وجودها أو أصل منشئها. هل تدري مثلاً ان الرئيس عبد الناصر كان يراجع في أوائل ثورة يولية بنود الميزانية المصرية - وكان ان استوقفه بند غريب يتكرر من عام الى عام وهو مبلغ تبادر خزانة الحكومة المصرية - كتر الله خيرها - الى تحويله لحساب خزانة الحكومة التركية في انقرة أو في اسطنبول وعندما استفسر الرئيس لم يكد يجد جوابا, اللهم الا ان المبلغ مرصود على هذا النحو على امتداد السنين .. وبعد البحث والتقصي اكتشف القوم انه مبلغ الجزية أو الصرّة أو ضريبة التابع للمتبوع .. سمها ما تشاء - التي كانت مفروضة على ولاية مصر شبه المستقلة كي تدفعها الى خزانة وليّ النعم - الباب العالي - السلطان العثماني أو المتبوع الأعظم في تركيا, كان ذلك منذ العهد الخديوي القديم وظل (الاخوة) الأتراك يستلمون مبلغا يأتيهم من باب السماء ويصرفونه فرحين مستبشرين ولامن شاف ولا من دري - ظلوا هكذا على امتداد ثلاثين عاما - تقل أو تزيد وبعد أن ألغيت الخلافة - السلطنة العثمانية في عام 1923. وإذا كان العضو - كما يقولون - يخلق الوظيفة فربما يأتي على الناس أحيان من الدهر تنتهي فيها الوظيفة الأساسية فيما يظل العضو موجودا - بغير شغله أو مشغله - ولكنه موجود في كل حال. في انجلترا مثلاً .. ظل احد رؤساء وزاراتها يصادق رجلا مهيب الطلعة يقف في رواق في مجلس العموم الانجليزي ويحي القادمين ثم يبادر كلا منهم بجملة واحدة يقول فيها: أيها السيد المبجل خذ حذرك. ذات يوم خطر للسياسي البريطاني ان يتساءل عن مهمة هذا الموظف الاشيب المهيب وعن الخطر الذي يحذر منه الداخلين والخارجين وبعد البحث ايضا اكتشفوا ان القوم كانوا قد قرروا منذ سنوات طويلة ان يكسوا بالطلاء الجديد جدران البرلمان البريطاني العتيد... وخوفا على اناقة النواب والمسؤولين عمدوا الى تعيين موظف مهمته ان ينبه الداخلين والخارجين الى ان يحذروا ملامسة الجدران خوفا من تلوث بدلاتهم بالطلاء, وتولى صاحبنا وظيفته الميري... ولعله مارسها بكل يقظة واخلاص و... جف الطلاء .. وفرحة البرلمان. وجاءت برلمانات وظلوا يعينون موظفا جديدا مع تقاعد القديم دون ان يسأل احد نفسه: لماذا؟ هكذا ظلت قاعدة لزوم الشيء هذه تفتح ابوابا.... كانت مطية لحرامية الوقف ومزيفي دفاتر الحسابات... بل ان أبواب الرزق نفسها كانت من اطرف ما يكون, كيف لا... وقد اقتضى الامر في الجيل الاول من القرن الحالي ان عمدت شركة ترام القاهرة وكانت بلجيكية الجنسية الى خلق - بالأدق - اختلاق وظيفة (شاهد زور في شركة الترماي) وقد ابرز طرافتها بدورها الكوميديان العبقري نجيب الريحاني في مسرحيته الشهيرة بعنوان (30 يوم في السجن (تأمل ــ بالمناسبة ــ كيف ان الفن الجميل في السينما والمسرح يمكن ان يصدق عليه وصف ديوان العرب المعاصر ــ بالضبط كما كان الشعر الجميل بدوره ديوان العرب الاقدمين) . المهم ان الشركة البلجيكية ادخلت الترام في شوارع القاهرة في عام 1896 (تصور!) وبعدها توالت المشاكل اذا انتقل اخوتنا في مصر من عصر المكارية ــ مواصلات الحمير الى عصر الترام ــ القاطرة الكهربائية كما وصفها من قلة الحيلة المجمع اللغوي وكانت النتيجة حوادث لا يعلم بها الا الله راح ضحيتها الناس ودفعت لهم الشركة دم قلبها تعويضات, وكان المطلوب اثبات ان الضحية هو المخطئ وليس الترام الطيب المهذب المستقيم فوق القضبان وكان المطلوب بالتالي ان يشهد مواطن آخر ان الضحية قد أخطأ في حق الترام الطيب البرئ... وبعدها تحصل الشركة على البراءة فلا تعويضات يومئذ ولا يحزنون, وانما الذين يحزنون هم أهل الضحية الفقير المسكين. هكذا نشأت الوظيفة التاعسة والغريبة شاهد زور في شركة الترماي... انسان عاطل عن العمل... واسع الذمة بطبيعة الحال... يتم (انتدابه) مع وقوع الحادثة ليشهد امام المحكمة انه كان من ركاب الترام لحظة وقوعها ويزوده دهاقنة الشركة المفترية ببطاقات (تذاكر) الركوب ثم يؤكد ــ قاتله الله ــ انه شاهد بعيني رأسه الضحية المغدور وهو يعبر الطريق متحديا الترام وربما مكشرا له عن انيابه (التكشير من جانب المواطن وليس الترام بطبيعة الحال) . والحاصل ان الناس تكيفوا مع وجود الترام يرمح في شوارع المحروسة واصبحت الحوادث نادرة واعفى المصريون الشركة البلجيكية من مهامها, وزال (الشيء) الذي كان يستلزم استخدام لزوم الشيء وهم شاهدو الزور... بل زال الترام اساسا من شوارع القاهرة وهو مثار الأسى لدى كاتب السطور وأمثاله ممن كانوا يأنسون الى هذه الوسيلة العتيقة لشق الشوارع في اناة وبطء ورجاحة عقل, تركبها بأقل الدراهم ثم تتفرج فوق البيعة على المحلات والبيوت وعلى خلق الله من كل صنف وملة.

Email