يوميات الدورة الثامنة لمعرض أبوظبي الدولي للكتاب: مسرحية زاروب في عكا تحصد الإعجاب والتقدير

ت + ت - الحجم الطبيعي

تضافرت عدة عوامل لتحقق للمسرحية الفلسطينية الجادة (زاروب في عكا) النجاح الذي رأيناه في عرضها على خشبة المجمع الثقافي على هامش فعاليات معرض الكتاب حيث امتلأت مقاعد الصالة الكبرى في المجمع بالحضور وامتد التصفيق بعد العرض لفترة قياسية, ثم تدافع الناس باتجاه الممثلة لتحيتها على نحو حميمي مؤكدين لها أن روايتها هي رواية كل فلسطيني, ومن غريب المفاجآت أن الفنانة التقت بابن خالتها الذي يقيم في أبوظبي وبعد غياب طويل ومنذ عام النكبة (1948) على وجه التحديد, كما أن واحدة من بطلات حكايتها (أم سليم البيك) ظهرت أيضاً في أبوظبي. أما العوامل التي صنعت هذا النجاح فهي المحتوى أو الموضوع بداية, وهو الموضوع الفلسطيني الحميم هذه المرة, وفي صيغة تفاصيل بسيطة لحياة امرأة شردت مثل الآلاف من أبناء وطنها, ثم الأسلوب الذي كتب به النص / الحكاية والذي اعتمد على لغة جميلة وفيها الكثير من الشعرية التي نلحظها في اللهجة المحكية حين تصفى ويعتنى بها وبعض الأشعار والأغاني التي تحفظها الذاكرة الفلسطينية جيداً, ثم أداء الفنانة التي تقمصت شخصيات حكايتها وتبنَّتْها ورَوَتها على أنها حكايتها, وهكذا اختطت المسرحية لنفسها بها هذه النوعية من الأعمال, لتنحاز إلى الشخصي والحميم واليومي والعفوي وتقدّم الموضوع العام من خلال حكاية طفلة كبرت في وطنها, غريبة عنه, فجمعت حكاياته ونسقتها في (مينودراما) من نوع مؤثر. من الصعب على غير من عايش تلك التفاصيل الدقيقة أن يفهم اللوعة وانكسار القلب اللذين تتحدث بهما سامية, صحيح أن الكثيرين أدركوا المعنى وبكوا مع الفنانة وضحكوا, لكن القصة أبعد من ذلك! إنها ليست فقط حكاية التشرد, وفقدان العائلة, والمكان وانقطاع الصلة بفلذات الأكباد والآباء, وليست التهجير والعذاب والخيام والسياحة الإجبارية في بلاد الله, كل هذا مفصل ومن مفاصل العمل, لكن جسد العمل كلّه هو الذاكرة, الذاكرة التي يتم تدميرها ومحوها بالكامل لتبنى على أنقاضها ذاكرة جديدة, أما شكل التدمير فلا يقف عند حد هدم البيت أو المسجد أو المعالم الأثرية الأخرى للمناطق المحتلة عام 1948 ممثلة هنا بمدينة (عكا) بل هدم الدلالات والصور والمعاني الموجودة في العقول والقلوب عن الحياة والناس والمكان. يقولون ان تغيير معالم المكان أي الجغرافيا, يغير التاريخ والإنسان, وإن صحَّ هذا في أمكنة كثيرة فإنه في عكا يصبح أكثر صحة وألماً, ذلك أن (عكا) الصامدة التي هزمت نابليون ذات مرة ومزقت جبروته على أسوارها, هي عكا التي جرى ويجري إلى الآن مسح كل ما هو عربي فيها, وما دامت الأمور تحدث, والعربية تتحول إلى عبرية والدليل السياحي العربي يتحول إلى يهودي, وكل شيء يقدم وفق اختلاقات الذاكرة الجديدة يبقى سوى الذاكرة تحمى, وتؤسس, وتعيد إلى الغياب الفلسطيني بعض الحضور, ولابد من (كبار السن) الشهداء والشاهدين ليقولوا للأجيال الجديدة ما لايعرفوه, وما يراد لهم أن ينسوه. لم تنس سامية, ابنة عكا وظلت الأحداث طازجة في روحها وعقلها وقلبها, ولهذا قررت أن تشرك الجميع في عدم النسيان, وأن تضعهم في حضور الذاكرة وتروي الحكاية, وكما قال درويش ذات مرة, لهم حكايتهم ولنا حكايتنا وهنا تكمن الحرب كل يريد أن يروي التاريخ بطريقته, والذين سمعوا سامية تحكي بحميمية خالصة, عن مشاهد الطفولة, فرح الحياة والبحر ورائحة الأعراس وتفاصيل الهجرة من عكا إلى برج البراجنة ثم العودة إلى عكا, يدرك كم أن الذاكرة الفلسطينية متجذرة وقوية وعظيمة وتستحق البقاء بالصوت الذي تختلف نبراته من حكاية لأخرى, والأغنية, والمفردة الجميلة, وشال أبيض, وبعض المقتنيات الصغيرة تصنع سامية كل هذا الألف, لاديكور ضخماً, لا مبالغات, بفضاء مسرحي واسع وروح أكثر اتساعا, ببوح يشبه عشق الصوفي تتذكر سامية أيام (هدأة البال) وتنبش ذاكرة الأيام تتساءل عن الشجرة التي كانت هنا, والزاروب الذي كان هناك, البيت الكبير بيت الشسيخ أسعد الشقيري الذي لم يبق منه سوى حجر تتجول به الفنانة في بقاع الأرض, ألعاب الطفولة وغيرها وغيرها. تفاصيل تحفر عميقاً في القلب, وحين يصل الجرح حده من الألم, ليس سوى الغناء يريح القلب, ويغسل عنه الحزن, وصخرة على شاطئ البحر وشعرٌ وموسيقى, وإصرار على الحياة ما استطعنا إليها سبيلاً على حدّ تعبير الشاعر محمود درويش الذي حضر في بعض مشاهد المسرحية. رغم ذلك كله, كانت المسرحية جرعة مكثفة جدا من الحزن يصعب احتمالها ولم تخفف منه سوى بعض (القفشات) والتعليقات التي كانت تطلقها الفنانة في محاولات متكررة للخروج على النص يبدو لنا أنها هي الأخرى كانت مدروسة ولاندري هل هي من صميم النص نفسه, ذلك ان هذا العمل يأتي ضمن موجة المسرح الجديد الذي يتيح للفنان حرية الخروج وعدم التقيّد بالنص المكتوب. تكمن أهمية هذا العمل في نقطتين أساسيتين الأولى على مستوى الموضوع حيث أنها تقدم للجيل الجديد - الذي تربى خارج فلسطين - ذاكرة خصبة ومليئة وفاعلة وهذا مهم في ظل ما يجري من سمسرة ونشاط تجار بيع الأراضي وأصحاب البيزنس, والثاني على المستوى الفني الذي تحدر من النمطية السائدة في المسرح السياسي أو الذي يعالج هموماً وطنية واتجه إلى الإنسان للبحث في داخله وليس ما يجري حوله فقط. بقي أن نشير إلى أن هذا العمل جاء نتاج جهود بحث ميداني استغرق عامين وجمعت خلاله الفنانة هذه التفاصيل من أشخاص عايشوها, واستمعت إلى قصصهم لتعيد صياغتها وتقديمها في ثوبٍ حكائي يعتمد الحكاية والسرد المسرحي في لوحاتٍ ومشاهد متواترة ومنفصلة في الآن نفسه. أخرج هذا العمل فؤاد عوض وشارك في البحث الميداني سيسيل كاحلي أما صور عكا فهي للمهندس اسماعيل بكري. متابعة - شهيرة أحمد

Email