استراحة البيان... والليلة عيد:يكتبها اليوم - جلال عارف

ت + ت - الحجم الطبيعي

لو كنت ــ مثلي ــ من المهتمين بكرة القدم, فلاشك انك تعرف كيف تبدو القاهرة عندما يلعب فريق مصر المباراة النهائية في بطولة دولية ؟ وكيف تخلو الشوارع حين تذاع المباراة؟ وكيف تسود مشاعر الحزن اذا انهزم فريق مصر؟, وكيف تغرق المدينة في بحر من البهجة اذا انتصر؟.. فتصحو طوال الليل ترقص وتغني في الشوارع, وكأنها تحس بأنها اقتنصت هذه الساعات بالفرح اقتناصا, وتريد ان ترتشفها حتى النهاية, ثم تقول كعادتها كلما صادفها الفرح: (اللهم اجعله خير) !! واذا كنت ــ مثلي ــ تسكن في مواجهة استاد العاصمة, فعليك ان تسقط من حسابك يوم المباريات الكبرى, فلا تلتزم بموعد مهم, وتذهب الى منزلك قبل المباراة بساعتين, اما بعد المباراة فليس امامك الا ان تختار بين ان تجلس في شرفة منزلك ترقب مائة ألف متفرج وهم يحتفلون بالفوز فيقطعون الطريق لساعات, او ان تنزل لتشاركهم الاحتفال, واي خيار ثالث لا مكان له حتى منتصف الليل على اقل تقدير. ومع ذلك فكل هذا شيء, وما يحدث في تلك المدينة الصغيرة الجميلة (بورسعيد) شيء آخر فهذه المدينة الرابضة على ساحل البحر المتوسط والمليئة بالحيوية والشباب, عاشت سنوات عمرها القريبة وهي تقسم وقتها بين العمل في الميناء ومقاتلة الغزاة وكرة القدم. واذا كانت بورسعيد قد وضعت اسمها على خرائط العالم كميناء اساسي ومدخل لقناة السويس, واذا كانت قد دخلت قلوب العرب جميعا وهي تهزم العدوان البريطاني الفرنسي الاسرائيلي عام 1956, فإنها بقيت خارج خريطة البطولات في كرة القدم, حتى فاز ناديها, المصري هذا الاسبوع بكأس مصر, ليعوض حرمانا طال ثلاثة ارباع القرن, وليفجر طوفانا من الفرح في المدينة لايمكن ان يعرفه الا من يعرفها جيدا, ويعرف عشقها للكرة الذي يبلغ حد الجنون, والذي كان سببا في انفجار الاوضاع بها مرات كثيرة, عندما تخرج الجماهير لتحتج على نتيجة مباراة, ويفلت الزمام وتفقد قوات الامن السيطرة, ولعل اخطر هذه المرات ما حدث في عهد الرئيس عبدالناصر, حيث انفجرت الاوضاع بعد احدى المباريات, وبسبب حماقة المسؤول عن الامن تطور الامر لسقوط ضحايا وقيام مظاهرات وتحطيم محلات وسيارات, واستمرت الاضطرابات ما يقرب من اسبوع كامل حتى عاد الهدوء للمدينة, وان بقيت احداث هذه الايام في ذاكرة المدينة, ومنها هذه الجنازة التي خرجت لضحايا الاحداث يتقدمها وزير الداخلية, وامامه مظاهرة حاشدة تهتف بسقوطه, ولا احد يقترب منها بعد ان صدرت الاوامر العليا بالسماح بهذه المظاهرات احساسا من المسؤولين بأن خطأ قد وقع, وان الاعتراض عليه قد يخفف من اثاره عند الناس. وانا لم اذهب الى امريكا الجنوبية, ولكن اتصور ان عشق الكرة في مدينتنا الصغيرة كعشقها في دول القارة التي جعلت من اللعبة الشعبية فنا راقيا, الاطفال وهم يلعبون في الحوارى والشوارع بكرات التنس الصغيرة فيكتسبون المهارات الرفيعة, والكبار وهم يتحاورون حول الكرة طول النهار والليل, والمقاهي التي تتحول الى روابط للمشجعين, والمواهب التي تظهر وتضيع في الشوارع, او تلك التي تجد طريقها للشهرة. وما اكثر المواهب الكروية في حياة هذه المدينة ولكن اعظمها على الاطلاق هو هذا اللاعب ضئيل القامة مقوس الرجلين الى حد ما الذي يعتبره الكثيرون ــ وانا منهم ـ ـ اعظم الهدافين في تاريخ مصر, والذي كانت الفرجة عليه متعة لاتدانيها متعة, لولا ان صحته كانت (على القد) ولياقته لم تكن كاملة في اي يوم بسبب سوء التغذية وسهر الليالي! كان الضظوي ـ وهذا هو اسمه ـ يتعب بعد ربع ساعة من اللعب, فيستريح في الملعب ويريح منافسيه, فلا يجري وراء الكرة ولا يبذل جهدا حتى يلتقط أنفاسه فيعود كما كان ويفعل بالكرة ما يشاء ويقدم فاصلا من المتعة الحقيقية حتى يتعب مرة اخرى.. وهكذا.. وبنصف الجهد هذا,كان الضظوي هو هداف مصر, وهو (البعبع) الذي يخشاه حراس المرمى ويرتجف منه المدافعون. وهو اللاعب الوحيد الذي كان كلما وصلته الكرة يقف الملعب كله لينتظر ماذا سيفعل؟, وهو واثق انه سيقدم جديدا. وذات يوم سألت المرحوم احمد مكاوي وكان كابتن مصر والنادي الاهلي لسنوات, وكان لاعبا فذا, وكان ايضا اعظم الخبراء في الكرة بين كل من كتبوا في الصحافة الرياضية. سألته يوما عن الضظوي فقال انه اعظم موهبة كروية ظهرت, ولو ان لياقته البدنية اكتملت, لكان اعظم لاعب في تاريخ الكرة في العالم كله! كان الضظوي معبود الجماهير في بورسعيد,حتى خطفه النادي الاهلي فاصبح الورقة الرابحة له, ولكن خطفه اورث النادي الاهلي عداء جمهور بورسعيد حتى اليوم.ولعل فوز بورسعيد بأول بطولة كروية في تاريخها وبعد ان تخطت النادي الاهلي في الدور قبل النهائي يفتح الطريق لمصالحة الناديين الكبيرين العريقين في الكرة.. وفي الوطنية.. ولعل البطولة تكون تحية لذكرى هذا اللاعب الفذ الذي امتع الملايين, والذي طلبت منه ملكة هولندا ذات يوم ان يخلع حذاءه لتعرف ما يخفيه من أسرار بعد مباراة شاهدتها في الملعب وفازت فيها مصر بخمسة اهداف مقابل اربعة.. وكانت اهداف مصر كلها تحمل توقيع الضظوي. وقد كان الضظوي خفيف الظل حتى وهو يلعب ولهذا لم تلحقه اصابات الملاعب, فقد كان منافسوه يخشونه ولكنهم كانوا يحبونه. ومات الضظوي فقيرا, وقبل رحيله كان لاعبو الكرة قد عرفوا طريق الثراء, وكان ينظر لنفسه ولانصاف الموهوبين الذين اثرتهم الكرة ويقول متهكما: لو لعبت الكرة على أيام هؤلاء, لوضعت ما يمكله عثمان احمد عثمان في جيبي!.. وكان عثمان يومها اغنى اغنياء مصر! ومادمنا نتحدث عن اثرياء الكرة, فلك ان تعلم ان مدرب النادي المصري الذي فاز بكأس مصر سيحصل ـ فوق مرتبه ـ على مائة الف دولار مكافأة. فالرجل كان بعيد النظر, والمسؤولون الذين تعاقدوا معه لم يكونوا يحلمون بتحقيق اي بطولة, ولذلك فقد وافقوا الرجل حين طالب ان ينص العقد على ان يحصل على هذه المكافأة اذا حقق النادي أي بطولة رسمية.. على اساس ان النادي لم يفعلها ولن يفعلها, ولكنه فعلها وسيقبض الرجل مكافأته حتى ولو كان الحظ والظروف وخيبة الاندية الكبيرة هي التي اعطته الكأس! بالمناسبة.. في الستينات فاز نادي الترسانة بكأس مصر وبالدوري.. وحصل كل لاعب على مكافأة قدرها خمسة عشر جنيها تسلمها بالتقسيط.وهو نفس الرقم الذي كان يحصل عليه مدرب الفريق عم (الشيوي) كمكافأة شهرية عن تدريب الفريق الذي كان من بين صفوفه نصف منتخب مصر! *** وقد كتبت السطور السابقة وانا استعد لمشاهدة المباراة النهائية في كأس افريقيا, وها أنا اعود لاستكمالها بعد ان شاهدت المباراة وقد اصبحت الكأس مصرية, والفريق الذي ذهب وهو لا يطمع في شيء الا الستر عاد وهو قاهر الجميع وبطل افريقيا, وحسام حسن الذي صام عن التهديف منذ شهور هو هداف البطولة, واللاعبون الذين كنا نخاف عليهم اذا لاقوا فريق كتكوت تألقوا جميعا, والجوهري المدرب الذي خرجنا على يديه من تصفيات كأس العالم بعد معسكرات وتجهيزات ومصروفات بالملايين, هو نفسه الذي حصل على البطولة بنفس الفريق وبعد ان شكا لطوب الارض من نقص الامكانيات وانعدام اللياقة عند اللاعبين, والفريق الذي كان لاعبوه يجرجرون ارجلهم وهم يلعبون في القاهرة اصبحوا يكملون المباريات اقوى مما بدأوها وهم يلعبون في درجة حرارة تقترب من الاربعين. ولا تقل كيف؟ فهذه هي لوغاريتمات الكرة المصرية التي حار العلماء في تفسيرها. والمهم الان انهم انتصروا, وان النصر طعمه حلو, وان مصر لن تنام الليلة من الفرحة, وان الناس ــ كل الناس ـ قد اسعدهم الفوز, في زمن عز فيه الفوز وتقلصت لحظات الفرح. و.. ليالي القاهرة ـ في العادة ـ جميلة, ولكن ما ابدعها حين تعانق الانتصار ولو في مباراة كرة ترسم الفرحة على وجوه الناس الطيبين وتصبح المدينة وكأنها في عيد. و.. الليلة عيد في القاهرة

Email