استراحة البيان: (إلزا) وأصناف البشر: يكتبها اليوم - محفوظ عبدالرحمن

ت + ت - الحجم الطبيعي

عرفت (الزا) في بداية الستينات, ومن أقصدها ليست (الزا) الشهيرة التي خاطبها بول ايلوار في شعره, حتى سمى نفسه, أو اسماه الآخرون (مجنون الزا) ويقال ان (الزا) هذه لم تحب ايلوار أبدا! ومن قالت هذا هي (الزا) التي اقصدها, والتي كانت صديقة لايلوار, ولا أدري مدى صدق هذه (النميمة) ... ولا اتصور اهميتها بالنسبة لنا, الا في ان قصة الحب الشهيرة هذه انما كانت مجرد نصف قصة حب! و(الزا) التي اقصدها ليست فرنسية مثل سميتها, وانما سويسرية من المنطقة التي تتكلم الفرنسية, وكانت قد أتت الى مصر منذ زمن طويل بعد ان احبت شابا من الارستقراطية المصرية, وصار بعد ذلك من اصحاب الالقاب, ولم يدم حبها طويلا, ونشب بينهما خلاف ادى الى الطلاق. وبدلا من ان تحمل السويسرية الجميلة (لابد انها كانت كذلك) فلقد قابلتها وهي في خريف العمر, تحزم حقيبتها وتعود الى بلادها بخفي حنين او خفي اي شخص اخر, بقيت في القاهرة ثم وهبت حياتها لخدمة حي بولاق الفقير. وعندما قابلتها كانت في بولاق مثل الام تريزا في آسيا. وكان الذي عرفني بها هو الدكتور سيد عويس, والدكتور سيد عويس هو من قلائل عكس القاعدة التي تقول ان الموت بداية افول النجوم. فعندما مات ادركنا اننا فقدنا معلما كبيرا, واردنا ان ننبه الناس الى مكانته, ومن المدهش ان مكانته بدأت تزيد بعد موته عاما بعد عام, ولا اظن ان هذا من طبيعة الاشياء. وكان سيد عويس يتحدث في اعقد الموضوعات بأبسط الكلمات كما لو كان أبسط الناس, وكان يقدم الحقائق باسلوبه السهل الممتنع. وكان متواضعا بعيدا عن الاضواء, ولذلك لم يعرف العامة فضله الا في نهاية حياته, ولسيد عويس كتاب هام جدا هو دراسة عن الرسائل التي تصل الى ضريح الامام الشافعي, فالبسطاء من الناس يظنون ان الامام الشافعي رضي الله عنه قادر على ان يحل مشاكلهم فيبعثون اليه برسائل يطلبون منه فيها ان يجد حلا لهذه المشاكل, ولقد اتاحت لي الظروف ان اقرأ بعض هذه الرسائل, او التي اختارها الدكتور عويس وهي تمثل عالما من الكوميديا والكوميديا السوداء والتراجيديا وكل فنون الدراما, فهناك من تطلب عقاب (العمدة) لانه انتزع منها بدون وجه حق دجاجتين وبطة! وهناك من يشكو خاله لانه نهب منه قطعة من الارض ويطلب اعادتها وهناك من يعبر عن الامه بوجود اسرائيل و يطلب ازالتها! وعن هذه الرسائل كتب سيد عويس كتابا ممتعا ومهما. ولكن هذا الكتاب ظل ملقى في الادراج سنوات, وكان هذا يؤلمني كثيرا, فعرضت الامر على احدى جهات النشر, فطلبوا ان يعرض عليهم الكتاب, وذهبت الى الدكتور عويس وقلت له ان هذه الجهة سمعت عن كتابه, وانها وسطتني لتحظى بحق نشره, ولم يكن هذا صحيحا تماما. وأحالت الجهة الكتاب الى فاحص من كبار الكتاب, فاتصلت به لكنه قال لي انه سيعتذر فالكتاب كبير, ونظره ضعيف, وبعد الحاح طويل مني, قبل ان اذهب اليه مرتين في الاسبوع اقرأ له في الكتاب. وكان هذا الكاتب الكبير ذواقا فكان يقضي وقتا في الاعجاب والاعتراض حتى استغرقنا شهورا طويلة, ومن هذه التجربة ادركت صعوبة اصدار كتاب جيد, وسهولة اصدار كتاب تافه! واتصل بي الدكتور سيد عويس ليطلب مني ان اكون مدرسا لالزا ثابت وقد اخذت اسم زوجها كما يفعل الاوروبيون, ورفضت الفكرة فورا, فأنا لا اصلح لمهنة التدريس, وكانت لي تجربة مؤكدة في ذلك. فبعد تخرجي من الجامعة طردتني صاحبة الجلالة الصحافة من بلاطها لاسباب غير مهنية, فبدأت ابحث عن عمل اخر, وتقدمت للعمل في احدى المدارس الخاصة, وانتظرت مقابلة المسؤول الذي غاب طويلا, وكان انتظاري قريبا من الطلاب فأزعجني صوتهم اشد الازعاج, الامر الذي دفعني الى التسلل من المدرسة مضحيا بالوظيفة. وبعد ذلك رفضت التدريس تماما, الى ان طلبت للتدريس في معهد الفنون المسرحية في الكويت في منتصف السبعينات, وقبلت لأنني سأدرس الكتابة للتلفزيون والاذاعة, وهي قريبة الى قلبي, ومع ذلك فلقد ضقت بالتدريس قبل نهاية العام, ربما لأن الادارة آنئذ ارادتني استاذا اكاديميا, بينما اردت ان أفيد الدارسين في حياتهم العملية. وهكذا خيبت املهم في حين انهم حققوا لي حلما قديما وهو ان اكون استاذا اكاديميا, وهكذا تعلمت انك لا تستطيع ان تكسب الناس بتحقيق أحلامهم, فبعض الناس ــ مثلي ــ لا يرضون لأحد ان يحقق احلامهم! المهم انني رفضت عرض الدكتور سيد عويس بشدة, لكنه بهدوئه الشديد وبحبات الحلوى التي كان يخرجها من جيبه شرح لي انني لن اكون مدرسا بمعنى الكلمة فالسيدة تعرف العربية, لكنها تريد ان تعرف قراءة وكتابة عن الثقافة والفن. وهكذا عرفت لاول مرة الزا ثابت المرأة التي اعطت حياتها كاملة لمجتمع ليس مجتمعها وفي البداية لن يعجبني هذا فانا ــ ومازلت ـ اتخوف من الاجانب الذين يريدون الانتماء الى مجتمعنا بداية من نوبار باشا الى لورنس وفليبي الى صغار المفكرين الذين ينتشرون بكثرة في شوارعنا الان. ولكن الزا اثبتت ان لكل قاعدة استثناء كما اثبت سليمان باشا الفرنساوي نفس الاستثناء منذ قرن ونصف فقد كان سليمان ضابطا من ضباط نابليون بونابرت وبعد هزيمة نابليون رأى ان يبحث عن مكان يعمل فيه. وعرض نفسه على (غارسي) التي رفضت خدماته, فبدأ يبحث عن مكان آخر كأي عسكري مرتزقة, وعرض نفسه على محمد علي باشا فقبله, وصار معاونا لابنه القائد ابراهيم باشا, فاذا به ـ اي سليمان ــ ينقلب من مرتزق الى رجل شديد الولاء وبذل كل جهده في بناء العسكرية المصرية حتى في عهد الاضمحلال بعد محمد علي. ومن الطريف ان سليمان باشا (الفرنساوي) زوج ابنته من محمد شريف باشا الذي اصبح فيما بعد رئيسا للوزراء وابا للدستور وللحركة النيابية, وشريف باشا هذا فضلا عن انه اهم سياسي مصري في القرن التاسع عشر هو جد الملكة نازلي والدة الملك فاروق. ولقد سمي شارع في وسط القاهرة القديمة باسم سليمان باشا مواز لشارع باسم شريف باشا, ولكن شخصا ما غير اسم الشارع الى اسم الاقتصادي الوطني (طلعت حرب) وعن هذا نعرف ان العظماء لا يظلمهم التافهون فقط, بل قد يظلمهم العظماء ايضا! وربما اكون قد علمت الزا ثابت بعض الاشياء فلقد كانت هذه هي مهمتي ولكنني تعلمت منها شيئا ظل معي حتى الان فلقد كانت تلخص أي شخص في كلمة. فمثلا كانت تلخص البعض في صنف من اصناف الاقمشة فكانت تقول عن شخص انه كقماش الخيام قوي ومتين لكنه قبيح وغير عملي, وكنت فخورا جدا عندما عرفت انها تقول انني كالحرير, رغم انها ترى الصوف افضل من الحرير. وكانت ايضا ترمز للناس بالحيوانات فهذا اسد, وهذا ذئب, وحتى بالزهور. وكان يشغلني دائما ان احاول معرفة نفسي من زاوية الزا ثابت, ربما من دعوة صلاح عبدالصبور (تحسس رأسك) ! فكنت ارى نفسي في عصفور صغير يسمونه (ابو فصادة) ولقد بحثت عن اسمه في القواميس فلم أجده, ولكننا نعرف ان فصادة قد تعني ريشه, اي ان معنى الاسم انه ابو ريشة, وهو عصفور لا يكف لحظة عن الحركة, ولذلك يطلق الاسم سخرية على الذين لا يستقرون في مكان. وانا فعلا لم استقر في مكان طوال عمري, دخلت خمس مدارس وعشت في مدن عديدة, وعملت في عشرات الوظائف. وانا انظر الى هذا اليوم بسخط, لم اتمن ابدا ان اكون (ابو فصادة) كنت اتمنى ان اكون شجرة (مثل عمنا نجيب محفوظ) تولد وتنمو في نفس المكان. ولكنك لن تكون ابداً من تتمنى فنحن صناعة الظروف والوراثة والاوهام. وفي غالب الامر لسنا نحن الذين نتصرف بل اباؤنا او مصالحنا, بالامس انحزت بشدة الى تأجيل اجتماع ثم اكتشفت انني افعل ذلك لانني سأكون مسافرا! وتأمل يا عزيزي كيف يعمل العقل الانساني, لقد تذكرت سيد عويس عندما تذكرت الزا ثابت, وتذكرت الزا عندما فكرت في اصناف البشر, وكيف انني احد الاصناف التي لا ارضى عنها, فانا قلق دائما, كأنني غجري رحال, اهدم خيمتي وانطلق, وفكرت في صفات البشر وصفاتي, عندما بدأت اكتب هذا المقال, فاندهشت لانني منتظم, وانني حتى الان, وعلى مر أسابيع مازلت متخوفا في خيمتي.

Email