استراحة البيان: لوحة ناطقة بقدرة الخالق: يكتبها اليوم - محمد خليفة بن حاضر

ت + ت - الحجم الطبيعي

في يوم من أيام الحياة, ذهبت اليه باحثا عن أثر من آثار ذلك الزمان, التي كنا نخلفها هنا وهناك, في نشاط دؤوب وحركة مستمرة غير مكترثين بالوقت , وعندما وقفت ببابه لم أجد الا بقية غير ذات شأن من تلك الآثار, بقية سكنت فيها الحركة, وغاضت في ثناياها الحياة, وبدت لي كأنها ضرب من الطيوف الغريبة, بعد أن كانت السمات الأصيلة المعبرة عن المكان والزمان بكل وضوح ونقاء سريرة. وراحت الأيام تمر أمامي برتابة ثقيلة, وتتوالى الأحداث والمتغيرات بذات الوتيرة, وبين الفينة والاخرى تلوح لي وجوه سمر كنت أعرفها في زمانها ومكانها, من خلال الاهازيج والأناشيد التي كانت ترددها وتتغنى بها في ليالي السمر على تلك الرمال الفضية. لقد أصبت بالدهشة من هول ما رأيت بفعل الجديد والمتغيرات العميقة, التي لوقعها درست تلك العلامات الفريدة التي كانت ميزة المكان والزمان الذي أعنيه, بحيث اندثرت معالمه وشحبت ملامحه, ولم يعد لها ذلك البريق الذي لمسته وعشته في يوم من أيام العمر, وبينما أنا سابح في خضم الخيال اذ بهاتف يقول: وكيف التذاذي بالاصائل والضحى/اذا لم يعد ذاك النسيم الذي هبا/ذكرت به عيشا كأن لم أفز به/وعمرا كأني كنت أقطعه وثبا/ كان ذلك الهاتف بمثابة الدافع الذي حرضني على المشي الى الامام, في اصرار على البحث والتنقيب عن المزيد من الآثار التي أصبحت بالنسبة لي مقتنيات نفيسة لابد من الاستئثار بها مهما كان الثمن, مع علمي المسبق بأن المأمول هو ضرب من المحال. ما الذي تغير يا ترى؟ حتى تعذر الابقاء ولو على اليسير من تلك العادات الطيبة, أهو الانسان أم الزمان؟ فاذا كان الانسان هو الذي تغير بفعل المستجدات الحديثة, فلماذا لم يتغير التغير الايجابي؟ بدليل أنه لم يأخذ من الحديث سوى ما يشبع نهمه الحسي وجشعه المادي! الأمر الذي تسبب في تخليه عن القيم السامية التي لو تمسك بها لافرزت له مكانا يستطيع من خلاله المشاركة الفعلية في صنع المتغيرات والمستجدات المتوالية. أما اذا كان الزمان قد تغير فالمصيبة أعظم من كل تصور, اذ أن ذلك يعني تخلفا كاملا عن ركب الحياة: ورحم الله الشابي إذ يقول: ومن لم يطاوعه شوق الحياة/تبخر في جوها واندثر/كذلك قالت لي الكائنات/وحدثني روحها المستتر/هو الكون حي يحب الحياة/ويحتقر الميت المندثر/فلا الأفق يحضن ميت الطيور/ولا النحل يلثم ميت الزهر/ والانسان هنا ينطبق عليه المثل القائل (لا في العير ولا في النفير), لأن الزمان قد تغير وهو لم يحرك ساكنا, في الوقت الذي تخلى فيه عن كل ما يمت الى أصله بصلة والى كيانه بسمة, فأصبح شكلا من أشكال الابهام, وأمسى لونا من ألوان الطلاسم, همه في الشكل دون المضمون, وفي الصور دون الجوهر, فلا عجب اذا ما ماتت فيه المشاعر, وتكلس فيه الاحساس, ونشطت الغرائز وتمادت الشهوات. وقبل أن تفيء الشمس الى أمر ربها وتغوص في الأعماق معلنة حلول الظلمة وزوال النور, وقفت حيث شاءت لي رحلة يومي ذاك, مادا بصري في الأفق الذهبي وقد انبسطت زرقة الخليج أمامي لوحة ناطقة بقدرة الخالق, ومن موقعي قرأت على جبين الأصيل ما معناه: صار طعم العيش مرا في فمي/بعد أن أصبحت بالدنيا عليما/آه من يأخذ علمي كله/ويعيد الطفل والجهل القديما/

Email